* شكّل وعد بلفور المشئوم عام 1917م، مستنداً قانونياً، وسنداً تعبوياً، استفاد منه يهود الشتات في العالم، فاستفاقوا إثر الحرب العالمية الأولى، على حلم الدولة التي تجمعهم، والكيان الذي يمثلهم، بعد سنوات ضياع وتشرد، فسرعان ما حل هذا الكيان العدواني المستعمر محل الانتداب البريطاني الذي مهّد للدولة المغتصبة،
|
بكافة الطرق والوسائل، ومن أهمها بطبيعة الحال، وعد وزير خارجية بريطانيا أوان ذاك، المستر (جيمس آرثر بلفور).
|
* كيف عمل اليهود، على قرض وقضم الأراضي الفلسطينية، وطرد ملاكها الأصليين منها، في ظرف ثلاثين عاماً فاصلة بين العام 1917م - وهو العام الذي صدر فيه وعد بلفور - وبين العام 1948م، العام الذي أعلن فيه قيام دولة إسرائيل..؟
|
* لطالما سمعت فيما مضى، كثيراً من الروايات حول طريقة الجمعيات اليهودية في شراء الدور والمزارع والبيارات. طريقة كانت مغرية للبائع، من مشتر يدفع الكثير من المال، ثم يترك المُشترى من الأرض بحوزة البائع، الذي كان يظن أنه خدع المشتري، خاصة عندما يبيعه ما ليس في حوزته، من جبال وأودية وغيرها.
|
* ثلاثون عاماً كانت كلها عمل وكفاح على كافة المستويات. ظهرت عصابات يهودية، مثل (الهاغاناة والأرغون وشيترن)، فتولت ترويع الفلسطينيين وتصفيتهم، وبرزت شركات وجمعيات صهيونية عالمية، تولت تنشيط العلاقات مع دول العالم وشعوبها، تروج للمشروع القائم على وعد بلفور، وتضخ الأموال إلى مندوبيها في فلسطين، لشراء المزيد من الأراضي، وكانت تبعث بآلاف المهاجرين اليهود الحالمين بأرض الميعاد، حتى جاءت الحرب العالمية الثانية، لتأذن بولادة الدولة العبرية في فلسطين، مثلما أذنت الحرب العالمية الأولى بوضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ومن ثم صدور وعد بلفور بتحويلها إلى وطن قومي لليهود.
|
* أنقل إليكم هنا، شهادة من عاش هذه التجربة بنفسه داخل الأرض الفلسطينية. من رأى بعينيه، وسمع بأذنيه، في تلك السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. سنوات القرض والقضم، التي هيأت لظهور الكيان الصهيوني.
|
* يروي (محسن بن عطية البردي الذبياني)، صاحب كتاب: (شذرات من تاريخ ذبيان، ص184-191)، - وهو كتاب صدر حديثاً في الطائف - يروي عن شاهدي عيان من أبناء قريته هما: عاطي بن عطية آل حسن البردي الذبياني (ت في 7-12-1414هـ عن 80 سنة)، ودخيل بن عمري آل حسن البردي الذبياني (ت في 5- 7-1419هـ عن 90سنة)، فيقول: كانا يسكنان قرية البردة من بلاد بني ذبيان (240 كيلاً) جنوبي مكة، يقول: حدثاني وحدثا أهالي القرية , في سياق الكلام على رحلتهما إلى أرض فلسطين في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وكانا يبحثان عن عمل يتكسبان منه، فقد أديا فريضة الحج في إحدى سنوات شبابهما، ثم رافقا بعض الحجاج إلى المدينة المنورة، ومن هناك سافرا براً على الأقدام بمحاذاة سكة حديد الحجاز إلى الأردن، ومنه دخلا فلسطين، وسكنا يافا، بعد رحلة شاقة دامت ثلاثة أشهر، ثم عملا مع العرب ومع اليهود، وكان اليهود يزيدون في أجور العمال الجادين والذين يتمسكون بدينهم ويؤدون الصلوات في أوقاتها، بحجة أنهم أصحاب أمانة، واتضح فيما بعد، أن هدفهم كان سحب الأيدي العاملة المتميزة من التجار العرب والمسلمين، فأصبحت الأسواق مليئة بالمنتجات اليهودية على حساب المنتجات العربية.
|
* وكان اليهود، يشترون من الفلسطينيين أهل الأرض، (نصيبهم من الشمس)..! المقابل لأملاكهم، ويدفعون أموالاً مغرية، ويأتون بشهود مسلمين ويهود، ويوثقون ذلك.
|
* وكانوا يشترون الأرض بطريقة أخرى أعجب من السابقة ، وهي أن يدفعوا مبالغ طائلة في مساحة تقدر بمساحة (جلد الثور)..! من مزارع وأراض عربية، ويحددون نقطة البداية فقط..! ولا يحددون المساحة بالأمتار، ويأتون بشهود يهود ومسلمين، ويوثقون البيع، ثم لا يطالبون الفلسطينيين بتسليم المبيع، ولا يعارضونهم في هذه الأراضي التي شروها منهم.
|
* وكان الفلسطينيون قد أخبراهما، أن هاته الطريقة في تملك الأرض وشرائها من قبل اليهود، قديمة، وأن المشترين اليهود لا يستفيدون من هذه العملية، فهم يدفعون أموالاً طائلة (على الفاضي)..!
|
* بقي الأمر على ما هو عليه، حتى قويت شوكة اليهود، وبدأت بوادر ظهور الكيان الصهيوني كدولة. يقولان: وقد شاهدنا الجيش البريطاني واليهودي في الشوارع الفلسطينية، فأخذ اليهود يظهرون ما لديهم من حجج ووثائق قديمة وحديثة، ويطبقونها على أرض الواقع، فيطرقون الأبواب في وضح النهار، ومعهم قوة عسكرية إسرائيلية بريطانية مشتركة، ثم يقولون لملاك الأرض من الفلسطينيين: أما باع جدك أو والدك أو بعت أنت قسمك من الشمس مقابل ملكك، لليهودي فلان حسب حجة البيع هذه..؟ فيقول: نعم. ويقولون: سطح المنزل والحديقة وفناء الدار ومزارعك لك في الليل، أما في النهار فهي للمشتري اليهودي حسب الوثيقة..!
|
* أما فكرة الشراء بمساحة جلد الثور، فكانوا يأتون بحبل رفيع جداً مقصوص من جلد الثور بشكل دائري، يبدأ من أطراف جلد الثور، وينتهي في منتصف الجلد، وهو مدبوغ جيداً، ويستخدم كأداة قياس، حيث تُحدد نقطة البداية حسب حجة البيع السابقة، ثم يبدأ وضع الحدود بطول هذا الحبل، وليس بمساحة جلد الثور المتعارف عليه كما توهم البائع قبلاً، فيأخذ هذا الحبل مساحة كبيرة من المزرعة، وبعضاً من المزارع يأخذها كلها، ويقولون: هذه هي مساحة جلد الثور الذي بعتها على فلان من اليهود، وإذا عارض صاحب الأرض، أخرج بالقوة، أو قتل من قبل الجيش المصاحب للمشتري.
|
* ويتجلى في هذا الأسلوب الاستلابي، خبث يهودي مشوب بدهاء وذكاء، كما تتجلى فيه طيبة وغفل الجانب الفلسطيني، الذي كان يظن أن اليهود المشترين، غُفل هُبل، وأنهم حمقى مجانين، كونهم يدفعون مقابل أراض يتركونها لأهلها سنوات طويلة، وأنهم كانوا يفاوضون فلسطينياً على شراء جبل أو تلة مقابلة له، هو لا يملكها بأي وثيقة، ولكنه يقبض الثمن ويضحك على عبط مشترين لا يسألون عن مستندات توثق ما يشترون، وإنما يكتفون بموافقة وتوقيع من بائع يدعي أن الجبل أو الفضاء من أملاكه.
|
* هذه الحالة الفريدة من الخداع المدعوم بالقوة، في تاريخ اغتصاب الأوطان من أهلها، ظهرت في شعر الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان -رحمه الله-، الذي عبر عن سخط وغصب وعتب في قصيدته الشهيرة: (إلى بائعي البلاد)، ومما قال فيها:
|
باعوا البلادَ إلى أعدائهم طَمَعا |
بالمال لكنّما أوطانَهم باعوا |
|
قد يُعذرون لَوَ أنّ الجوعَ أرغمهم |
واللهِ ما عطشوا يوماً ولا جاعوا |
تلك البلادُ إذا قلتَ: اسمُها وطنٌ |
لا يفهمون ودون الفهمِ أطماع |
أعداؤنا منذ أن كانوا صيارفةً |
ونحن منذ هبطنا الأرضَ زُرّاعُ |
* إلى أن يقول مخاطباً مواطنه الفلسطيني:
|
فكِّرْ بموتكَ في أرضٍ نشأتَ بها |
واتركْ لقبركَ أرضاً طولُها باع |
* ومثل هذا التوجع والتوجد للديار وأهلها، قاله دخيل بن عمري الذبياني، أحد رواة هذه القصة وهو في يافا، قبيل عودته لدياره في السعودية، في لحن جبلي مغنى. قال:
|
البارح أحلم وانا يا خوك أدرج في وسط عمرين |
يوم أصبح الصبح يا مبعد دياري عنك يا يافا |
حمدت ربي سقى الديرة ويرويها بالأمطار |
من بعدها يا كريم الوجه تلبسها حياها |
وقلت: يا رب تعطيني يا راقب الشان |
وترديني مثل ما رديت في الديرة بماها |
* ثم عاد (دخيل وعاطي) من أرض فلسطين، قبيل الحرب العالمية الثانية، مع الحجاج القادمين إلى مكة والطائف، بعد أن شريا جملاً، وحمّلاه بالهدايا، وراحا يقصان مشاهداتهما في المجالس، حتى وافتهما المنية.
|
|