Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/02/2009 G Issue 13279
الخميس 10 صفر 1430   العدد  13279
الليلة الرمادية

 

العنود المطيري

قبل البدء.. هذه القصة واقعية أبطالها مازلت أراهم على أرض الواقع وأعترف أن الخيال قد طالها في كثير من تفاصيلها.. على كرسي خشبي جلست تلك المرأة وهي تنظر في هدوء أمامها حيث ولدها الوحيد ذي الثمانية عشر عاماً وهو يمسك بدمية صغيرة وبيده الأخرى كأس ماء وهو يحاول إقناع الدمية لتشرب من الماء!

نظرت الأم بعينين شاحبتين إلى قطعة من فؤادها تقبع أمامها.. نظرت وأطالت النظر حتى تجاوزت بنظرها سنوات عديدة مرت من حياتها.. وتحديداً تلك السنة التي رزقها الله فيها بولد ملأ عليها حياتها بعد أن عاشت سبع سنوات بعد زواجها وهي تمني نفسها بولد حتى جاء عادل فأحست أن الحياة قد تغير طعمها وأصبحت ترى حياتها بعيني طفلها الوحيد.. ولاسيما أن الأطباء قد ذكروا لها أنه لا أمل البتة من أن تنجب بعد عادل أبداً.

بذلت كل أيامها لعادل.. كانت ترى فيه الحياة كلها.. أحبته حباً لا حدود له وأفاضت عليه من نهر العطاء الدفاق بسخاء لا مثيل له.

كبر الابن شيئاً فشيئا، وأمه يكبر اهتمامها به أكثر فأكثر فكانت لا تنام إلا ويدها تحتضن كفيه الصغيرين، وعلى الرغم من أن الطفل قد بلغ الخامسة من عمره إلا أنه كان يقضي فترات طويلة في حضن أمه.

وكثيراً ما كان أقاربها يلومونها على هذه الرعاية الزائدة فهي لا يهنأ لها بال إن كانت عند أحدهم عندما ذهب ليلعب مع الأطفال فتقوم في الحال لتراقبه وهو يلعب أو تأتي به ليلعب أمام ناظريها.

تذكرت ذلك اليوم عندما قال لها زوجها.. دعي الطفل يعتمد على نفسه.. سينشأ الطفل مدللاً: قاطعته هي.. أبا عادل كثيراً ما أسمع من الأمهات أن الطفل الأول والأخير يحظيان باهتمام ورعاية زائدة وحب أكثر فكيف بعادل وهو الطفل الأول والأخير فلابد أن يأخذ الحب والحنان كله.

وتمر الأيام ويدخل عادل المدرسة فينقطع لذلك قلب أمه فكانت تنتظره يومياً في فناء المنزل ليعود ويرتمي في أحضان أمه.. وهكذا تمر السنوات لتأتي تلك الليلة الغريبة التي حدث فيها ما لم يكن في الحسبان تلك الليلة التي مازالت أم عادل تتذكر أدق تفاصيلها جيداً كيف لا؟! وهي الليلة التي أهدتها ثياب الحزن الأبدية وسقتها من شراب الهم كؤوساً لا يمكن أن تنسى طعمها أبداً.

بدأت أحداث تلك الليلة عندما طلب أبو عادل من زوجته أن تنام عند أهلها لظرف طارئ في العمل.

ذهبت إلى أهلها ومعها فلذة كبدها وكان قد بلغ الثامنة وعندما حان وقت النوم.. جاءت أختها ذات الاثني عشر ربيعاً ومعها إخوتها الصغار وطلبت منها أن تسمح لعادل أن ينام معهم على السطح..

ضحكت أم عادل وقالت: مستحيل.. اذهبوا أنتم وناموا هناك.. أما عادل فلن يفارقني.. التفت عادل الذي كان جالساً بجوار أمه بعينيه الصغيرتين نحو أمه وقال: أرجوك يا أمي.. سأنام معهم.. قالت لا يا عادل ألن تنام بجانبي؟

هتف عادل: أنا كبير يا أمي.. أرجوك.. ثم التفت نحو جدته وقال: جدتي: قولي لأمي أن تسمح لي بأن أنام معهم.

قالت الجدة: يا ابنتي دعيه ينام معهم الليلة.. الليلة فقط.. لن يصيبه شيء فهو مع إخوتك.. وهنا تدافعت الأصوات ولم تجد أم عادل بداً من الموافقة.

فتراكض الأطفال الصغار ومعهم عادل الصغير

صمتت أم عادل وقلبها مازال مقبوضاً على ولدها.. هناك شيء ما سيحصل لولدها، بدأت الهواجس تغزو عقلها وبعد ساعة من التفكير تسلل النوم إلى جفنيها ونامت على الرغم منها وأخذت ساعات الليل تزحف ببطء والصغار نائمون، وفجأة بلا مقدمات هبت رياح قوية وأخذت تصفق هنا وهناك واستيقظ الأطفال واحداً تلو الآخر فقد اعتادوا أن تقطع نومهم في هذا المكان ظروف الجو القاسية.

فأخذوا ينزلون والنوم ملء أعينهم، منهم من نزل بفراشه ومنهم من نزل وليس معه شيء وارتمى كل منهم على سريره واستسلم للنوم مباشرة.

وهناك على سطح المنزل أخذت الرياح تتلاعب بالمكان، وثمة وسائد مرمية هنا وهناك، وبعض الأغطية.. وهنا طفل صغير لم تستطع الرياح إيقاظه.

أخذت الرياح تقوى شيئاً فشيئاً حتى أخذت تصدر أصواتاً عالية مما أيقظ عادل الذي فتح عينيه والتفت هنا وهناك..

أين هو؟

لا يدري..

عجز عقله الصغير أن يستوعب المكان الذي هو فيه.. ليل أسود.. ظلام كحيل.. أصوات غريبة.. الرياح تطرق الأبواب، وتصدر أصواتاً حتى حفيف الأشجار في الشوارع كان صوته مرعباً.

بدا وجه عادل شاحباً ولم يتذكر في هذا الجو المخيف سوى ذلك الحضن الدافئ الذي كثيراً ما يلجأ إليه، وذلك الحنان الذي ارتوى منه لسنين.. فصرخ بأعلى صوته.. أمي.. أمي.. لكن حنجرته الصغيرة لم تساعده كثيراً، فقد بح صوته، وأصبحت أوصاله ترتعد خوفاً.. فجمدت أطرافه.. والظلام يلف المكان، والرعب يلف الطفل الصغير، وأخذ يصرخ بصوت لا يسمعه إلا هو.. أمي.. أمي..

هبت الأم مذعورة من مكانها على قطرات من الماء سقطت على وجهها فتحت عينيها وإذا بعادل أمامها ومازالت الدمية في يده.. نفضت رأسها بقوة لتنفض باقي ذكريات تلك الليلة الرمادية الأليمة ثم التفتت نحو ولدها الذي هتف بصوت طفولي.. أمي.. انظري الدمية رفضت أن تشرب الماء.

* عن وهج الحياة للإعلام



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد