ينحني عمود النار يحدق جهة الشاب الجالس تحته في موهن من الليل يطالع عدد مجلة العربي بين الحين والآخر يرفع رأسه عن صفحات المجلة ليتناول كوب الشاي أو ليغير جلسته أو ليجيل نظره في أفق من الظلام. اجترحته أضواء الشوارع والمنازل فحرمته أن يوغل بنظره في ظلام لا ينتهي كما يحلو له.
إلى جوار شجرة الكينا تجلس العجوز تحدق باتجاه الأفق ذاته بينما كانت الشمس هزيلة تداري وجهها الشاحب يراود الظلام المدينة فلا تستسلم له وتبزغ الأضواء من كل مكان..
في هدأة الليل أطلت من نافذة غرفتها، جهة عمود النور وشجرة الكينا التي تتحرك مع هبوب النسيم بينما قططها تدور حولها وتتصارع لتنال القرب من قدميها النحيلتين..
منذ ليال كانت تنظر من النافذة نفسها إلى حمدان يتصفح مجلته بعد أن شاركها العشاء وأجاب عن أسئلتها واستمع لأحاديثها المتداخلة، وحين أسلمت جسدها للفراش أطفأ نور غرفتها وانسل مصطحبا ما تبقى من الشاي الذي أعدته مع العشاء، جلس بجوار شجرة الكينا على ضوء نور الشارع يتصفح عدد سبتمبر 1993 من مجلة العربي وإلى جواره الراديو يبث تحليلات إخبارية وتفسيرات لماحدث وتوقعات لما يحدث.
كانت تشعر بخروجه سرعان ما تستيقظ من نومها فتجده ما زال في مكانه فتحيط بدعواتها وتعاويذها.
تناولت واحداً من أعداد المجلة المكدسة في رف خشبي في إحدى زوايا الغرفة قلبت صفحاتها تأملت كلماتها المكتوبة بحروف دقيقة والمرسومة بعناية، تمنت لو أنها تستطيع فهم ما تقوله هذه الصفحات لابنها وهو يقضي الساعات يحدق فيها، تعيد نظرها إلى مكان جلوسه تحت شجرة الكينا، تشعر برغبة في البكاء لا يواتيها الدمع فقد استنفذته السنوات ولحظات الوداع التي كان آخرها منذ يومين حينما ودعت ابنها ليبدأ حياته العملية في مدينة لم تسمع باسمها من قبل.
ضمت المجلة إلى صدرها وقد تملكها شعور بالوحدة طالما خالط أيامها ولياليها حتى أوشكت أن تألفه.
على رغم رحيل العجوز وتشرد قططها بقيت شجرة الكينا في موضعها وإن بدت عليها آثار السنين وبقي عمود النور يحدق بنفس الاتجاه بينما يجلس حمدان يتصفح عدد أبريل 2007 من مجلة العربي يمر على صفحاتها سريعاً يقرأ عناوين الموضوعات دون أن يوغل في قراءة الصفحات والسطور فنظره يخذله أمام الحروف الصغيرة ووقته لا يكاد يفي بمتطلبات وظيفته وأسرته قبل أن يمضي ساعات متنقلاً بين القنوات الفضائية وصفحات الإنترنت.