في التراث، قيل لفرعون: ما الذي فرعنك..؟!! فردّ: لم أجد من يردعني..!!
وهذا هو حال الخارجين على القوانين والأعراف الدولية والنواميس الأخلاقية، أفراداً ودولاً. ولقد حاول المصلحون، ونزلت الرسالات السماوية تحمل شرائع وإجراءات لمحاسبة من يخرج عن الطبع الإنساني يمارس التوحش والقتل، ويرتكب جرائم ضد الإنسانية، ثم وضعت الضوابط والقوانين للحد من هذه الجرائم، وسنَّت القوانين وأوضحت الشرائع المنزلة من السماء محدِّدة نوع الجريمة والعقاب، فالسن بالسن، والعين بالعين، والنفس بالنفس. وأجمعت كل شرائع الموحدين (المسلمين والنصارى واليهود) بأن (من يزهق نفساً بشرية كمن يزهق أرواح الناس جميعاً) ولذا فقد سن القصاص من القَتَلة، والتعزير للذين يرتكبون جرائم أقل من القتل. وقد أكدت دراسات علماء الاجتماع أن المجتمعات البشرية التي تلتزم بهذه المعايير السماوية وتطبيق الأنظمة والقوانين التي اعتمد في صياغتها على الشرائع السماوية تكون أقل المجتمعات تضرراً، وتقل فيها الأعمال الإجرامية، وأكثرها حفاظا على العلاقات الإنسانية السوية.
كما أن العلاقات الدولية تكون في أفضل حالاتها حينما تلتزم الدول بالقوانين والأعراف الدولية، خاصة عندما تطبق المعايير الأخلاقية والقانونية على الدول والكيانات التي تتجاوز هذه القوانين والشرائع، وعلى العكس من ذلك تماما، تتفشى التجاوزات وتكثر المخالفات والجرائم التي ترتكبها الدول المستكبرة على الدول الضعيفة حينما تستقوي تلك الدول على الأسرة الدولية وتتجاهل ما وضع من قوانين وضوابط.. نتيجة وصول قيادة تلك القوى إلى جماعة تؤمن بفكر تسلطي أو فوقي ينتج فكراً استكبارياً عنصرياً يستمد توجهاته إمّا من خلال فهم خاطئ لفكر ديني أو فكر قومي.. أو حتى إنساني مغلوط..!! أو تراكمات وأخطاء وتجاوزات من حكام تلك الدول وأنظمتها التي ليست بالضرورة تخدم مصالح تلك الدول، بل هي نتيجة طغيان التوجه الأيديولوجي؛ وذلك بربطه بالفكر الديني أو القومي أو الشوفيني القطري.
وهكذا، ترتكب الجرائم باسم الدين أو القومية أو بهدف مدّ النفوذ القطري وتفرض قوى الاستكبار رؤياها وتثبتها على الأرض بما تملكه من قدرات وإمكانيات عسكرية واقتصادية معزَّزة بنفوذ سياسي محزم بقواعد عسكرية، فتفرض على الدول الأقل منها قدرات وإمكانيات، ومن يقف في طريق طموحات وأطماع الدول المستكبرة تتعرض لاستباحة سيادتها وأرضها وكرامتها، ويضطهد نظامها السياسي، وبعد أن تحاصر تلك الدول وتفرض عليها العقوبات حتى تكون مهيأة للاحتلال وتجتاح أراضيها قوات دول الاستكبار، فتسقط الضحايا ويُقتل البشر وتُدمّر البنى الأساسية للدول وتفرض على الشعوب الذلة خدمة لمصالح دول الاستكبار، وتحقيقاً لتوجهات فكرية أو أيديولوجية، أو فرضاً لرؤية دينية ضيقة أو عنصرية قومية أو شفونية قطرية، كالتي كانت سببا في العمليات العسكرية الأمريكية والحروب الإسرائيلية المتعددة على الدول العربية، والعدوان الإسرائيلي المتواصل على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من ستة عقود.
هذه الحروب والخروج على القيم والأعراف الدولية من قِبَل الدول التي تستشعر القوة وتمارس الغطرسة والقتل وإبادة آلاف الأبرياء من البشر، وهؤلاء الذين لا يجدون من يردعهم يواصلون إجرامهم أو يواصل من يأتي بعدهم نفس الإجرام.. هل من وسيلة أو جهة قادرة على حماية البشرية من هؤلاء المتوحشين أنظمة.. ودولاً وأفراداً.. مثل ما فعله بوش وإدارته.. وإسرائيل وقادتها العسكريون والسياسيون من عدوان وإبادة مبرمجة للفلسطينيين؟!
وهل يمكن اعتبار محكمة الجزاء الدولية هي الأداة المطلوبة؟! وهل نعتبر تصدي مدعيها العام لمتابعة الأنظمة والزعماء السياسيين والعسكريين ومحاسبتهم على أفعالهم هو البداية؟ وهل نستبشر بإعلانه أنه سيتابع جرائم الإسرائيليين التي حفل بها عدوانهم الأخير على غزة.. هي البداية التي تحد من (فرعنة) المتوحشين إن لم توقفها؟!
jaser@al-jazirah.com.sa