في ليلة الاثنين 1-1-1430هـ وفي تمام الساعة الثالثة بعد منتصف الليل رحل أبي إلى جوار ربه.. رحمه الله رحمةً واسعةً، وجعل منزله في عليين، وجمعنا به في جنات النعيم.
|
هبطتْ تشيّع روحك الجوزاءُ |
فأضاء من وهج البهاء بهاءُ |
وبكى الجلال على الجلال بحرقةٍ |
ومضت بنعشك قبلنا العلياءُ |
شرِِقت حُشاشات النّحيب وأينعت |
خلف الجفون: دموعنا الخرساء |
وشوى الأنين قلوبنا فتفطّرت |
أكبادنا فبكاؤنا إيماء |
وتضاءل الكون الفسيح بمقلتي |
وقضت على إِبصارها الأقذاء |
أمسيت بعدك نصف قلبي جمرةٌ |
والنصف ثلجٌ والعروق هباء |
إني ومن حولي هنا في حسرةٍ |
عُظمى تُفتّت صبرنا اللأواء |
صلّى فؤادك تحت سدرة حزننا |
وتدثّرت تهليلك الأرجاء |
وأتت ملائكة النعيم (كما روت |
روحي) بطون أكفها خضراء |
صعدت بروحك والعبير يحفّها |
والنْور ترسم دربه الأنواء |
ورحلت في (الثلث الأخير) ببسمةٍ |
دُهشت لِناصع حسنها الأضواء |
في مثل هذا الوقت تنهض مُشرقاً |
فتشيب من إشراقك الظلماء |
في مثل هذا الوقت من عهد الصّبا |
يدعوك خوْفٌ صادقٌ ورجاء |
فتقوم منشرح الفؤاد مسبّحاً |
ما دبّ في أعضائك استرخاء |
فيسيل بالترتيل في أسماعنا |
نور اليقين فتُخصب الأجواء |
وعلى أذانك تشمخرّ جوارحي |
فأقوم يغسل مقلتيَّ صفاء |
يا عاشق البيت العتيق ومن له |
خلف (المقام) تهجّدٌ وبكاء |
يا بلبل (الركن اليماني) ها أنا |
وأحبتي زفراتنا حمراء |
نصطفّ خلف الرّكن نعشُك قبلنا |
تجتاحنا شهقاتنا الهوجاء |
وقلوبنا غصّت بعلقم حزنها |
نبضاتها تغلي بها البُرَحَاء |
كم بتّ معتكفاً هنا متبتّلاً |
لله يشرب وجهك اللألاء |
عشقتك أرض الوحي حين عشقتها |
وهواةُ فاقع طهرها السُّعداء |
بالله كيف يحيط شعري يا أبي |
بفضائلٍ ما طالها الفضلاء؟ |
ركضتْ معي كل المعاني ضُمّرٌ |
حتى أصاب صمودها الإعياء |
من أين تُدركك الصفات وأنت من |
لَبِست حُلاك صفاتُها الحسناء |
يا مَن خلعت على المكارم بِِزّةً |
طارت بباهر وشيها الأنباء |
شهد الجميع بنبل طبعك يا أبي |
والناس للمولى هنا شهداء |
أرّختَ لِلشيم الرفيعة ها هنا |
مجداً يسير بهديه الشرفاء |
ونبذت خلفك زخرف الدنيا فما |
أغراك من زيف الحياة نِداء |
وصفحت مُقتدراً بكلّ تلطّفٍ |
عمَّن بإصرارٍ إليك أساءوا |
علّمتهم أن الحياة تسامحٌ |
ومودةٌ وتراحمٌ وإخاء |
فغرست في كل القلوب محبةً |
ومهابةً ما نالها العظماء |
رصّعت مجدك من يواقيت التّقى |
وجذور فخرك عِفةٌ وحياء |
وصمدت في وجه الخطوب بهمّةٍ |
عجزت تُحيط بسرّها الأرزاء |
وألنت أكباد (الصخور) بحنكةٍ |
أصْغت لِمذهل بوحها الصماء |
ورفعت أركان المنى ببصيرةٍ |
فسما على أسس الصلاح بناء |
أفضى بِسرّك (للسقائف) خافقٌ |
من حِلمهِ يتعلّم الرُّحماء |
علّمتنا بالصمت أبلغ حكمةٍ |
والنّابهون حديثهم إيحاء |
يا راحلاً بضيائنا في لحظةٍ |
عجفاء تكسو وجهها الوعثاء |
لِله أنت فكم سعيت مكافحاً |
من أجلنا وكوى خطاك عناء |
ونفثت في روع الرّبا أهزوجةً |
كم هام في أبعادها البلغاء |
ما زلت أذكر يا أبي أَلَقَ الضحى |
في وجنتيك. وفي يديك عطاء |
ما زلت أذكر في جبينك لؤلؤًا |
شقّ الثرى فإذا اليباب نماء |
نضّدّت أسرار الحقول فقمحها |
في ساعديك بشائر وسَخاء |
شربتْ سنابلها حنانك غُدوةً |
فإذا الحصاد: خزائنٌ ورفاء |
أزكى الثمار تدفّقتْ (فُلجانها) |
من راحتيك فعمّت النّعماء |
ما بين هامات النّخيل: ولوزنا |
يمتدّ وجهك للسنين سناء |
فتظلّ تركض في فجاج طموحنا |
عيناك للفلق النّديّ لِواء |
ونظلّ نَرْقبُ نور موكبك الذي |
زفّتهُ قبل مغيبها (الشِّعراء) |
متحلّقون على موائد شوقنا |
ترنو لِطيفك أنفُسٌ شعثاء |
فتجيء بالبشرى وتمحو خوفنا |
فَيُذِيب غمّ البائسين هناء |
سقطت دموعٌ باللّهيب مِلاءُ |
فتصدّعتْ من حرّها الرّمضاء |
وبكى معي قلمي وكل محابري |
ودفاتِري وقصائدي العصماء |
وبكاك نبضي في الوريد ومهجةٌ |
هي للنحيب ضحى الرحيل وِعاء |
من أين تمتاح القوافي نورها |
وجِهاتها من حزنها سوداء |
فَقَدَ ابتسامتك اليتيم فمن له |
إذ مُزقت بأنينه الأحشاء؟ |
فبكى وأبكى الثاكلين وأجهشت |
ودياننا وجبالنا الشمّاء |
وبكاك محرابٌ تُعطرُ جوفه |
من ثغرك: (الفرقان) (والإسراء) |
وبكاك صمت الليل كم نادمته |
وبكاك في الثلث الأخير دُعاء |
وبكاك مصحفك الذي عزّيتُهُ |
فتحشرجت في جوفه الأجزاء |
وبكاك (ريحان) السفوح (ونحلها) |
وبكى على وجع الغيوم مساء |
لم يُسلِ قلبك في الفقيد عزاءُ |
كلاّ ولم يطفئ أساك رثاء |
اخفض (جناح الذلّ) واكتب للنُّهى |
مرثيةً يبكي لها الغُلظاء |
مرثيةً يطوي الفِجاج نحيبها |
ويقوم إجلالاً لها الشعراء |
ما مِتّ يا أبتِ فصوتك في دمي |
قبسٌ وفي رئة البيان هواء |
كم عاش من ميتٍ تخلّد ذكره |
ويموت قبل مماتهم أحياء |
سأظلّ صدّاحاً بفضلك يا أبي |
ما دام لي بين الأنام بقاء |
وبفضل أمي فهي قد سبقت إلى |
دار الخلود فغابت السّرّاء |
ما زلت آمل أن يََلُمّ شتاتنا |
بكما بجنات الخلود لِقاء |
(أَلِفُ) الحياة لمن تأمل زيفَها |
ببصيرةٍ رغم البهارج: (ياء) |
|