قبل عامين تقريباً أشرت إلى إن البنوك السعودية لن تستمر إلى ما لا نهاية في تبني نهج المصرفية التقليدية المتعارضة مع تعاليم الدين الحنيف، وإن جهود العلماء في خلق المنتجات الإسلامية الشاملة ستثمر عن تحول المصارف السعودية إلى (المصرفية الإسلامية) في غضون عشر سنوات. معضلة المنتجات المصرفية المتوافقة مع متطلبات الشريعة تم التغلب عليها بفضل الله وبركته، ثم بفضل العلماء الثقات الذين بذلوا جهداً كبيراً في خلق البديل الإسلامي المناسب لغالبية المنتجات التقليدية. أصحاب الفضيلة العلماء، ومنهم فضيلة الشيخ عبدالله المنيع، باتوا يشترطون تحول فروع البنوك السعودية، التي ترغب في الحصول على مساعدتهم في كل ما يتعلق ب (المصرفية الإسلامية)، في مكة والمدينة إلى فروع إسلامية.
خطوات الخير التي انتهجها أصحاب الفضيلة العلماء مع البنوك الراغبة في مزاولة الأنشطة المصرفية الإسلامية، ورغبة المجتمع، واهتمام إدارات المصارف التقليدية بالتحول إلى (الصيرفة الإسلامية)، وتشجيع الجهات الرسمية قادت إلى إحداث التغيير الكبير في القطاع المصرفي، وهو تحول جذري بكل ما تعنيه الكلمة.
البنك الأهلي التجاري كان في مقدم البنوك المهتمة ب(المصرفية الإسلامية) وإليه يرجع الفضل بعد الله في مد جسور العلاقة بين المصارف التقليدية وعلماء الشريعة لتأسيس قاعدة (التحول نحو المصرفية الإسلامية). لم يكن الأمر هيناً، فالبدايات عادة ما تكون قاسية، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالبنوك التقليدية.
خطوة البنك الأهلي تبعتها خطوات البنوك التقليدية الأخرى، تسارعت لدى البعض، وتثاقلت لدى البعض الآخر لأسباب إدارية صرفة. لم يعد مهما معرفة من فتح باب التحول إلى (المصرفية الإسلامية) أمام البنوك التقليدية ومن ولجه أولاً، طالما أن البنوك التقليدية باتت في سباق مع الزمن لتطبيق المتطلبات الشرعية على عملياتها المصرفية والتحول الكلي إلى (المصرفية الإسلامية).
ضمن فعاليات ندوة (مستقبل العمل المصرفي الإسلامي) التي نظمها البنك الأهلي، وحضرها مجموعة من علماء الفقه الإسلامي، وخبراء المصرفية الإسلامية وعدد من الاقتصاديين، أعلن عبدالرزاق الخريجي، مدير مجموعة تطوير العمل المصرفي الإسلامي، الإنتهاء من تحويل جميع فروع البنك الأهلي إلى المصرفية الإسلامية.
ربما جاء الإعلان متأخراً إذا ما قيس بزمن البدايات، إلا أنه يبقى عملاً مميزاً نرجو الله أن يجزل لكل من ساهم فيه المثوبة والعطاء.
ندوة البنك الأهلي تناولت محاور مهمة في (المصرفية الإسلامية) وعلى رأسها تعدد جهات الفتوى التي قد تقود إلى تضارب الفتاوى الشرعية ما قد يضعف الثقة في المؤسسات المصرفية الإسلامية. أشرت فيما مضى إلى هذه الجزئية بالذات، وآثارها المقوضة لجهود التحول إلى (المصرفية الإسلامية)، وآثارها أيضاً على سوق الأسهم وعلاقة القطاع المصرفي به.
توصية الندوة بعقد حلقة نقاش لحصر نقاط الخلاف وتحديد آليات للتنسيق بين الهيئات الشرعية من أجل تثبيت ما صح شرعاً وإلغاء كل ما يتعارض مع الحكم الشرعي هو أمر غاية في الأهمية، ويجب أن يكون من أولويات المصارف والمهتمين ب (المصرفية الإسلامية). قد تكون هناك شوائب يمكن تنقية العمل المصرفي الإسلامي منها لضمان استمراريته وتوسعة، إلا أن تضخيم الخلاف في الفتوى المتعلقة ببعض الجزئيات قد تحد من ثقة المجتمع بالمصرفية الإسلامية وقد تبطّئ من عمليات التحول السريعة التي نرجو الله أن تطال جميع المصارف السعودية التقليدية.
هناك محاور أخرى لا تقل أهمية عن المحور الأول كسلامة تطبيق قرارات الهيئة الشرعية ،على سبيل المثال، وهو الجانب الأهم في عملية تنفيذ العمليات المتوافقة مع متطلبات الشريعة. هذه المرحلة يمكن أن تمضي قرارات الهيئة الشرعية وتوثقها وتقدم المنتج النهائي وفق متطلبات الشريعة الإسلامية، ويمكن أيضاً أن تقوض كل متطلبات الشريعة وقرارات الهيئة من خلال آلية التنفيذ الخاطئة، التي لا تخلو معظم المصارف الإسلامية من بعضها.
الندوة وضعت أيضاً توصيات عامة طالبت فيها الهيئات الشرعية والمؤسسات المالية تأهيل مجموعات من طلاب العلم الشرعي وتأهيلهم التأهيل الأمثل. أعتقد أن هذه التوصيات العامة يفترض أن تكون من أهم التوصيات على الإطلاق.
فالمصرفية الإسلامية تعاني كثيرا من شح علماء الفقه المتمرسين في الشؤون المالية والمصرفية، وهذا هو سبب تكرار عضوية العلماء في الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية. أصبح المجتمع الإسلامي في حاجة ماسة إلى التوسع في تأهيل طلاب العلم الشرعي في كل ماله علاقة ب (فقه المعاملات). زيادة عدد المؤهلين شرعاً للتعامل مع المصارف الإسلامية، وقطاع التأمين التعاوني يساعد كثيراً في دفع المصرفية الإسلامية إلى الخطوط الأمامية في المجتمعات الإسلامية، والمجتمعات الغربية التي تشتكي من صعوبة توفير الهيئات الشرعية المتخصصة التي يمكن أن تتعامل مع حجم العمل ونوعيته المعقدة.
المصرفية الإسلامية يجب أن تسود المجتمعات الإسلامية، وأن تطرد منها البنوك التقليدية الربوية التي فرضها الإستعمار، وهي لن تنجح في تحقيق ذلك إلا من خلال الدعم الرسمي، والشعبي الذي يعول عليه الكثير في دعم المصارف الإسلامية، ودعم الهيئات، المنظمات الإسلامية والمجامع الفقهية، وإقرار المرجعية الموحدة لقضايا المصرفية الإسلامية التي يمكن لها البت في اختلاف العلماء حول القضايا المالية المعاصرة، ومعالجتها بما يزيد من ثقة المجتمع بمنظومة (المصرفية الإسلامية) وليس العكس.
***
f.albuainain@hotmail.com