بعد أن توقف الإرهاب الإسرائيلي في غزة عاد الفلسطينيون ليتفقدوا منازلهم، فوجدوها ركاما وكأن زلزالا أصابها. شدني من بينهم شاب مع أسرته زوجته وطفليه. بحثوا عن منزلهم ليجدوه حطاما، فما كان منهم إلا أن نصبوا خيمة مكان منزلهم ليسكنوا فيها، لا صراخ ولا عويل ولا استجداء، بل عزة وإباء..
.. وقال ذلك الشاب: (إنهم يريدون أن يخرجونا من أرضنا، ولكننا لن نخرج حتى ولو عشنا بقية حياتنا في خيمة).
هذا المعنى الجليل فات الكثير من المخذلين الذين كانوا مستميتين في التقليل من سلاح المقاومة، إلى حد وصفه بالعبثية، وأنه لا يعدو أن يكون ألعابا نارية، بل بلغ ببعضهم التهويل من جبروت إسرائيل، والدفاع عن جرائمها، وتبرير إرهابها بأن لديها أجهزة متطورة ودقيقة تكتشف مخابئ الأسلحة تحت منازل المدنيين، وأصبح هؤلاء أبواقا للآلة الدعائية الإسرائيلية.
هؤلاء المخذلون (العقلانيون كما يقولون) تجاهلوا التاريخ فلا أحد ينال حريته واستقلاله دون تضحيات، فتاريخ دول أوربا وأمريكا وآسيا وإفريقيا خير شاهد، حتى شبه القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلاديش) التي يزعم أنها نالت استقلالها بدون عنف لم تحصل على ذلك دون تضحيات، ولولا شعور بريطانيا بالضعف، وإدراكها لخطورة استمرارها في استعمار أمة يبلغ تعداد سكانها عشرين ضعفا لسكانها هي، وتعلمها من غطرسة وجرائم فرنسا في الجزائر، لولا ذلك كله لاختلف الأمر هناك كليا.
أما الاستهانة بسلاح المقاومة والزعم بعدم فاعليته بل ونتائجه العكسية، فأمر يدحضه المنطق والواقع. فلو لم يكن فاعلا ورادعا فلماذا تصر إسرائيل وحلفاؤها على نزعه. وإذا كانت إسرائيل قد اتخذته مجرد ذريعة لمهاجمة غزة-كما يزعمون- فلماذا يكون أهم البنود التي تطالب بها إسرائيل - دائما وبعد توقف الحرب- هو تجريد المقاومة من سلاحها بل الاتفاقية الأمنية الأمريكية الإسرائيلية التي وقعت الأسبوع الماضي تخص هذا الأمر بالذات. فلماذا تعقد إسرائيل هذه الاتفاقية الخاصة مع أكبر دولة في العالم ومن ورائه حلف الأطلسي، وهم حلفاء لم يبخلوا عليها يوما ما بأي شيء تريده، لماذا كل ذلك إذا كان سلاح المقاومة عبثيا؟
أما الواقع فيؤكد ذلك من جانبين:
أولهما: الآثار الجسيمة التي سببتها هذه الصواريخ في القواعد العسكرية الإسرائيلية المحصنة بأحدث الأجهزة الدفاعية الأمريكية، كما اعترف العدو بذلك، إضافة إلى زيادة مداها وقدرتها على صد الجيش الإسرائيلي المدجج بأعتى الأسلحة.
ثانيهما: إيجاد توازن نسبي للرعب، فمع التفاوت الكبير في العتاد إلا أن سلاح المقاومة أرعب اليهود ، وأجليت كل المدن والبلدات الإسرائيلية المتاخمة لغزة.
ولا أظن أن (عاقلا) يفسر ذلك الجلاء بسبب أسلحة عبثية أو ألعاب نارية! إن اندحار إسرائيل وانهزامها في هذه الحرب لا يريد أن يعترف به أولئك المخذلون لأن في ذلك سقوطا ل(منطقهم)، مع أن الدلائل تدحض ما يقولون. إن الانتصاريحصل عندما تتحقق أهداف الحرب لا بقتل أكبر عدد من المدنيين والأطفال والنساء، ولا بهدم أكبر عدد من المنازل على رؤوس أهلها، ولا بتدمير المساجد والمستشفيات ومراكز الإعلام.
إن هزيمة إسرائيل بدت واضحة للعيان من خلال الجوانب التالية:
- الفشل في تحقيق أي من الأهداف المعلنة للحرب الإسرائيلية وهي القضاء على المقاومة، وإسقاط حماس، وتجريدها من سلاحها.
فالمقاومة لم تتأثر من هذه الحرب، وتعززت سلطة حماس، وبقي سلاحها يهدد إسرائيل، بل استمر إطلاق الصواريخ حتى بعد توقف الحرب.
- طول أمد الحرب؛ إذ كانت إسرائيل تتوقع إنهاءها خلال أيام قلائل، فغزة محاصرة منذ ثلاث سنوات، وكل مقومات الحياة معدومة.
ولكن المقاومة لم تتزعزع رغم الصدمة العنيفة المفاجئة، مما أذهل إسرائيل وجعلها تيأس من تحقيق أي نصر أو حتى اتفاق مع المقاومة على إيقاف الحرب فبدأت بتسريب أخبار وقف الحرب من جانب واحد.
ثم تأكد فشلها عندما سارعت إسرائيل لإيقاف الحرب من جانب واحد دون شرط أو قيد، وهي التي كانت تصر على شروط قاسية.
- كانت الظروف كلها مواتية لنصر إسرائيلي حاسم وسريع: فاكتمال العدة والعتاد من أحدث الأسلحة الأمريكية والأوربية، وجسر جوي وبحري كذلك، وتعلم الدروس من هزيمتي 2002و 2006، وخلاف عربي وفرقة فلسطينية.
أضف إلى ذلك مقاومة محدودة الإمكانات ومحرومة من أي دعم ومحاصرة من كل جانب.
إن عدم انتصار إسرائيل في مثل هذه الظروف لهو شر هزيمة.
- ما نشرته الصحف الإسرائيلية (هآرتس،معاريف،بديعوت أحرونوت) من تحليلات ومقالات عديدة تنتقد الحكومة على توريط إسرائيل في حرب خاسرة ثانية بعد الحرب على لبنان 2006م.
- الإسراع في سحب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة حتى قبل المهلة التي أمهلتها المقاومة، وهي أسبوع واحد فقط.
فالمنتصر لا ينسحب لكي يملي شروطه.
وقد اعتادت إسرائيل في حروبها مع الجيوش العربية على البقاء لعدة أشهر، فقد بقيت بعد انتهاء العدوان الثلاثي على مصر 1956 عشرة أشهر.
- الانتقادات الشديدة التي وجهها عسكريون مثل موشى أرنز ورؤساء المخابرات في (الشاباك والموساد) بشأن أخطاء في شن الحرب وإدارتها وتوقيت إنهائها.
- التستر على الخسائر الإسرائيلية في القتلى والأهداف العسكرية والمادية، وهي التي كانت تدعي الشفافية، وقد واكب ذلك تعتيم إعلامي، مما حدا بصحيفة لموند الفرنسية إلى القول: إن الإعلام الإسرائيلي لم يقل إلا نصف الحقيقة.