في البداية أودُّ أن أشير إلى أن هذه المقالة كتبت مع بداية الأسبوع الثالث من العدوان الصهيوني الأخير على غزة. أما بعد:
|
فإن للكلمة البليغة أثرها في النفوس. وإذا كانت الكلمة شعراً فإن أثرها يكون أبلغ وأمضى. أما أثر الكلمة الشعرية لدى أمتنا العربية بالذات فكان كبيراً جداً، وبخاصة في قرون مضت.
|
كان الشعر قبل ظهور الإسلام يوقد نار الحرب بين القبائل في أكثر الأحيان، ويطفئها في أقلِّها. وبعد أن ظهر هذا الدين القيم كان الشعر سلاحاً ماضياً له دوره المميَّز في معارك الجهاد. كيف لا وقد أمر قائد المجاهدين وقدوتهم، نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - شاعره حسان بن ثابت، رضي الله عنه، أن يهجو من كانوا أعداء المسلمين فإن كلماته أشد عليهم من النبال.
|
وظل الشعر عبر القرون ديواناً للعرب يعبِّر عن مشاعرهم، ويرصد تحُّركهم في كل وجوه حياتهم. وفي معارك توحيد وطننا العزيز كانت له مكانته، وكان له دوره في حشد القوى وتحريضها على الإقدام والتضحية، كما كان له دوره في رصد حركة تلك المعارك ونتائجها. ومن الأمثلة على ذلك قصيدة (الخلوج) للشاعر العملاق محمد العوني، وقصيدة الشاعر المبدع ابن حصيص، التي رصدت رصداً دقيقاً ما حدث بين الملك الموحِّد ومن اختلفوا معه من الإخوان.
|
والحديث عن دور الشعر، إنهاضاً للهمم وشحذاً للعزائم في مواجهة الاستعمار، الذي كان جاثماً على صدور أقطار عديدة من أقطار أمتنا، حديث يطول ويطول. لكن هذه المقالة محصورة على الإشارة إلى أمثلة قليلة جداً مما قيل شعراً عن قضية أسوأ استعمار واجهته أمتنا، وهو الاستعمار الاستيطاني العنصري الصهيوني لفلسطين. فعندما أوشك الصهاينة على الوصول إلى ما سعوا إليه، مؤازرين من أعداء أمتنا الآخرين، وبخاصة بريطانيا الممهدة لذلك الاستعمار وأمريكا المساندة له مساندة غير محدودة، انطلق الشعر معبِّراً عما في النفوس، ومحذِّراً من مغبة ما قد يحدث. وكان مما قيل قصيدة ألقيت أمام الملك سعود - وكان حينذاك ولياً للعهد - عند زيارته للقدس. وقد ورد فيها:
|
|
أم جئت من قبل الضياع تودِّعه؟
|
ومن المؤكد أن هدف الملك، رحمه الله، كان زيارة المسجد وقد تحقَّق.
|
لكن ما حدث بعد ذلك هو أن تلك الزيارة كانت بمثابة التوديع مع الأسف والألم الشديدين.
|
وكان مما قيل قصيدة للشاعر علي محمود طه، التي غنَّاها - فيما بعد - محمد عبدالوهاب، وأصبحت تتردَّد على ألسنة المخلصين لأمتهم. ومنها:
|
أخي جاوز الظالمون المدى |
فحقَّ الجهاد وحق الفدى |
أنتركهم يغصبون العرو |
بة مجد الأبوَّة والسؤددا؟ |
وليسوا بغير صليل السيوف |
يجيبون صوتاً لنا أو صدى |
فجرِّد حسامك من غمده |
فليس له بعد أن يغمدا |
|
كان الجهاد حقاً من حقوق من ظُلم واستهدف وطنه ليحل فيه آخرون بدلاً منه، وكان الفداء حقاً أيضاً، بل كان الجهاد والفداء واجبين كما كانا حقين. وكانت كلمة (الجهاد)، الذي هو ذروة سنام الإسلام، كلمة لها قداستها في النفوس، ولها منزلتها في الممارسة، فداء وتضحية، وكان المجاهدون يتدفقون - حسب الفرصة المتاحة لهم - إلى فلسطين استجابة لنداء الحق وأداءً لما آمنوا بأنه واجب لابد من القيام به. وباع المؤمنون أنفسهم إلى الله ابتغاء مرضاته، فما ماتوا في الدنيا ذكراً، ولا حرموا من الفوز في الآخرة بما وعد به من لا يخلف الميعاد.
|
ومرَّت السنوات والسنوات والظلم الصهيوني، المدعوم دعماً غير محدود من المتصهينين، يزداد شراسة وعنفاً، وما تخلَّف الشعر عن مواكبة الأحداث، ولا تخلّى الشعراء - على العموم - عن رصدها، ولشعراء وطننا العزيز مكانة مقدَّرة كل التقدير في التعبير عما في نفوس المخلصين من أمتنا عن قضية فلسطين بكل أبعادها وجوانبها، ولعلَّ ضربي مثلا باثنين منهم كاف لإيضاح ما تهدف إليه هذه المقالة.
|
أول هذين الشاعرين هو الدكتور غازي القصيبي، وهو من هو مقدرة بلاغية وتدفُّقاً شعرياً. وكان مما قاله - وله صلة بالفداء- قصيدة عن إحدى جرائم الكيان الصهيوني، التي تمثلت في مقتل الطفل محمد الدرة، ومن أبياتها، مخاطباً ذلك الطفل:
|
يا فدى ناظريك كل بيانٍ |
بمعاني هواننا يتوقَّد |
يا فدى ناظريك كل زعيم |
حظه في الوغى أدان وندَّد |
يا فدى ناظريك كل اجتماع |
ليس فيه سوى خضوع يُجدَّد |
|
قد علمنا تهوَّد البعض منا |
أو لم يبق معشر ما تهوَّد؟ |
ومما قاله قصيدة عبَّر فيها عن فداء البطلة آيات، مضمِّناً إياها رده على أولئك الذين لا يرون فداء الأبطال في سبيل الله، ثم في سبيل وطنهم، عملاً استشهادياً، وأولئك الذين يسمونهم انتحاريين. ومطلع تلك القصيدة:
|
يشهد الله أنكم شهداء |
يشهد الأنبياء والأولياء |
متّمُ كي تعز كلْمة ربي |
في ربوع أعزَّها الإسراء |
انتحرتم؟ نحن الذين انتحرنا |
بحياة أمواتها الأحياء |
ثم صوَّر حال الأمة بقوله:
|
قد عجزنا حتى شكا العجز منا |
وبكينا حتى ازدرانا البكاء |
وركعنا حتى اشمأز ركوع |
ورجونا حتى استغاث الرجاء |
وشكونا إلى طواغيت بيت |
أبيضٍ ملء قلبه ظلماء |
أيها القوم نحن متنا ولكن |
أنفت أن تضمنا الغبراء |
ثم مضى في تدفُّق شاعريته قائلاً:
|
قل لآيات: يا عروس العوالي |
كل حسنٍ لمقلتيك الفداء |
تلثم الموت وهي تضحك بشراً |
ومن الموت يهرب الزعماء |
واختتم تلك القصيدة قائلا:
|
حين يدعو الجهاد لا استفتاء |
الفتاوى - يوم الجهاد – الدماء |
وإني لأكاد أجزم أن مشاهدة المذبحة المرتكبة في غزة تجعل قلبه يتقطع ألماً، تماماً كما هي قلوب كل من لديهم مشاعر إنسانية، وما عُهِد إلا معبِّراً مقتدراً عما يختلج في نفسه من مشاعر.
|
ولقد سمعت، وقرأت، كثيراً مما قاله شعراء عن المذبحة التي ارتكبها الصهاينة في غزة، وما كان المتصهينون في أمريكا والمنافقون في أوروبا إلا مشاركين في ارتكاب تلك المذبحة بوجه قبيح من الوجوه المتعددة، أما الآخرون فأمرهم إلى من لاتخفى عنه خافية {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ِ}، على أن من أحسن ما قرأته - إن لم يكن أحسنه - قصيدة للشاعر المجيد عيسى جراباً عبَّر فيها عن أحاسيس الشاعر الذي قال عنه:
|
لاذ بالصمت هل ترى خان؟ كلا |
صمت من يملك القرار خيانه |
إيه يا غزة الصمود هنيئاً |
خسر البغي في ثراك رهانه |
كبّري كبِّري ومدِّي بها الص |
وت فكم زلزل الصدى أركانه |
واستحثي قوافل النصر وارمي |
باسم من رتَّل الورى قرآنه |
ومنها ما قاله عن تلك المدينة الصامدة:
|
أقبلت تطلب الشهادة عافت |
عيش من بات يستلذ هوانه |
من رأى فيك ما يرى ثم يغضي |
لهو ميت لم يدفنوا جثمانه |
إيه يا غزة الهُويَّة عذراً |
خانك اليوم من أضاع الأمانه |
أو نبكي عليك أم أنت من |
يبكي علينا؟ جراحنا هتَّانه |
منذ ستين والخطوب جسام |
تفقد العاقل الرشيد اتّزانه |
غير أنَّا نلمُّها ثم نغفو |
ثم نصحو نلوك دانى ودانه |
هكذا والعدو يرنو فكم زاد |
وزدنا تغطرساً واستكانه |
أضرم الأرض والسماء وردّ |
الفعل شجب بشدّة وإدانه |
|
إيه يا غَزَّة الإباء سأطوي |
حرف شعري فليس للشعر خانه |
قد بلوناه منذ ستين عاماً |
وهو يوري بهمة نيرانه |
إنما ما استطاع تحرير أرض |
كيف من كان طرسه ميدانه |
من يرد عِزَّة ينلها ولو ميتاً |
ومن هان لم تضُرْه المهانه |
أبعد هذا القول قول جدير بالإيراد؟
|
|