إصلاح الأمة وتنقية سلوكيات أبنائها من الشوائب واجب يشمل كل فرد ينتمي إلى هذه الأمة، أياً كان موقعه أو مركزه، ومهما كانت مكانته الاجتماعية ودرجته العلمية.
والأمة الإسلامية، تواجه فترة عصيبة، مثلها مثل باقي الأمم الموحدة، فبالإضافة إلى طغيان الفكر والسلوك الإلحادي والمادي الذي يعاني منه أبناء العصر من ابتعاد أتباع الأديان جميعاً عن تعاليمها السمحة، والتي تزرع الأخلاق والسلوك الخيّر في النفس الإنسانية، إذ انقسم البشر، ومنهم أتباع الأديان التوحيدية إلى صنوف شتى، منهم من يقبض على دينه كمن يقبض على جمر، ومنهم من يشط فيغلو ويذهب بعيداً فيحرِّم ما أحله الله، ويضيِّق على البشر فينفرهم من هذا الدين وذاك، ومنهم من يبتعد كلياً عن الدين فيسرف في ملذاته وملاهيه غافلاً عن أنه سيحاسب على أفعاله، يوم تعرض أمام الخالق الأفعال جميعها ينظر فيها، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
وبين هذا وذاك أمة وسط، التزمت بالدين كطوق نجاة وموجه فاجتازت الحياة الدنيا، وعبرت للآخرة مؤدية واجبها الديني، وعاشت حياتها منعَّمة بما حباها الله من نعم.. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.
والوصول إلى هذه الحالة الوسطية والتعامل مع الدين كمنجاة للبشر في حياتهم الدنيا الفانية لبناء الحياة الدائمة في الآخرة، يتطلب فهماً وممارسة مبنية على التعامل بنقاء مع الشريعة الإسلامية، وهذا يستدعي اضطلاع من حباهم الله بالتبحّر والتعمّق في فهم الشريعة الإسلامية وعلومها المختلفة لتقديم الإجابة الشافية والعلم الصحيح لأتباع الملة بلا تجاوز ولا غلو ولا بدع، بل اتباع لنهج الشريعة تأسياً بسيرة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم-.
هكذا كان علماء السلف الصالحون -رحمهم الله-. ورغم أن العصور الإسلامية قد شهدت تجاوزات وشططا ممن انحرفوا صوب التشدد، أو التراخي، إلا أن العصر الذي نعيشه يشهد انحرافاً أكثر؛ سواء في التشدد والغلو، أو التراخي والانحلال، والذي زاد الأمر سوءاً وجعل الوضع خطيراً جداً هو ظهور طبقة جديدة من مدعي العلم الشرعي، وتطاولهم على الشريعة الإسلامية وجرأتهم على امتهان دور كان الخلفاء الراشدون والصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- يتهيبون لمجرد الاقتراب منه.
فقد شهد العصر الحالي ظهور طبقة جديدة ممن تسلقوا حبال المحطات الفضائية ومساحات الإعلام ممتهنين تقديم الفتاوى الدينية، مستبيحين هذه المهمة التي لا يجب أن يتصدى لها إلا العلماء الأفذاذ والتي لها ضوابط وشروط لا تتوافر في الكثير ممن تسلقوا الأجواء الفضائية ورابطوا في محطات التلفاز متخذين الوسائل الإعلامية سبيلاً للشهرة من خلال تقديم الإثارة ونشر النزاعات والخلافات وتقديم الفتاوى والآراء الشاذة التي أثَّرت على الكثير من الشباب المسلم؛ مما أوجد أوضاعا خطيرة في جميع الأقطار الإسلامية.
خطر تجرؤ غير المؤهلين وتسلل الكثيرين من أدعياء العلم من خلال التصدي للفتيا، أدخل العالم الإسلامي دائرة الخطر، بل إن الأمة الإسلامية عايشت الخطر من خلال انقسام الأمة بين متشددين اتخذوا سلوك الإرهاب طريقاً لفرض آرائهم، وبين فئة ابتعدت عن الدين وأخذت بالانحلال؛ فيما تشبثت الأكثرية بوسطية الدين منجاة للشريعة والبشرية.
هذا المنحى الخطير الذي سارت عليه فئتان من أبناء الأمة الإسلامية جعل أمة المسلمين وعلماءها الذين استشعروا الخطر يتداعون ويسارعون لوضع حد لانتهاك حرمة الفتيا، فكان أن عقد مؤتمر عالمي للفتوى وضوابطها، عقد في رحاب مكة المكرمة وتحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وقد تصدَّت لمهمة عقد هذا المؤتمر العالمي رابطة العالم الإسلامي، واستغرق الإعداد ثلاثة أعوام، وبعد مداولات وأبحاث استمرت خمسة أيام، شارك فيها خيرة علماء الأمة الذين قدموا لمكة المكرمة من مختلف أنحاء العالم تدارسوا جميع المشكلات التي تتعلق بالإفتاء والفتوى مؤكدين على أهمية الفتوى في الإسلام وخطرها، وما ينبغي أن يقوم به المفتون من تيسير الفتاوى المبنية على الوسطية والابتعاد عن الإثارة، وعن كل ما من شأنه إثارة النزاع والخلاف، وظهور الآراء الشاذة التي قد تؤثر على بعض الشباب المسلم.
وكان مسك الختام لقاء خادم الحرمين الشريفين بعلماء الأمة؛ حيث أكد الملك عبدالله بن عبدالعزيز في ذلك اللقاء أن تأهيل العلماء والمفتين مطلب ضروري، فالتصدي للفتوى له شروطه التي يجب أن تتوافر في أهلها متمنياً من وسائل الإعلام ألا تفتح الباب على مصراعيه للإفتاء لغير العلماء الثقات العارفين بشرع الله وواقع أمتهم.
مهمة جليلة يضطلع بها العلماء تتطلب منافحة.. بل جهاداً لمواجهة دعاة الغلو.. ومشجعي الانحلال. فكل ذلك يتطلب مواجهة ومحاربة.. وقد وضع المؤتمر العالمي للفتوى وضوابطها الأسس العلمية لإطلاق هذا الجهاد.