بحسب علمي وخبرتي العملية المتواضعة، واعتمادا على ما تعلمته في قاعات المحاضرات ومن أساتذة الاقتصاد والخبراء في المؤتمرات العلمية العالمية والإقليمية، وما قرأته في بطون أمهات الكتب الأعجمية حاضرها وماضيها، لم يمر العالم بأزمة مالية (خانقة) كتلك التي تدور رحاها في هذا الوقت (دع عنك أزمة الكساد العظيم في 1928 فهي لا شيء سيذكر أمام حمم قنابل الفسفور المالية الحالية لو قدر لها لا سمح الله الانفجار) تلك الأزمة التي تمسك بتلابيب الاقتصاد الأمريكي بالدرجة الأولى والعالمي بالتبعية وتكاد أن تطوح به في دهاليز المجهول، حيث ستفوق كوارث انهيار البنوك الأمريكية، وما سيتبعه من طوفان انهيارات عدد غير قليل من بنوك ومؤسسات مالية أمريكية وعالمية، ما يستطيع عقل أحدنا على تخيله حتى لتكاد وحدات الذاكرة في الحاسبات الآلية أن تنفجر من (سخونة) وهول أرقام الخسائر المالية المتوقعة.
لا شك أن الجميع قد فجع بحجم الصعوبات التي بدأت تطفو على سطح الوسطين السياسي والمالي حالياً والتي بدأت تهدد جدياً (كينونة الوجود) لأكبر بنك في أمريكا (وقد يكون الأكبر في العالم) وهو بنك أمريكا ومن خلفه سيئة الحظ مجموعة سيتي جروب المالية (والتي قد يتم تأميمها قريبا) وحلقة ليست بالقليلة من البنوك الأمريكية الأقل عدة وعتاداً. لن نخوض في الأسباب الكامنة أو بالأحرى (الحقيقية) سواء الاقتصادية منها أو السياسية والتي أدت (وعجلت) بوصول هاتين المؤسستين الماليتين العملاقتين إلى شفير الهاوية والانهيار فأهل مكة أدرى بشعابها حالياً. وأعدكم بمقالة لاحقة للخوض في تلك الأسباب في المستقبل القريب وذلك بشرط (نجاة) هاتين المؤسستين وبقائهما على قيد الحياة بعد خروجهما من غرفة العناية المالية المركزة في الوست وينق.
المأزق المالي الحقيقي للمؤسستين العملاقتين حالياً يتعاظم سلبياً وبشكل سريع حتى أنه قد بدأ يخرج عن سيطرة أهل الحل والربط داخل تلك المؤسستين العملاقتين، وبدأت الأصوات ترتفع داخل الوسط المصرفي الأمريكي مطالبة بتدخل (الكوماندوس) المالي الحكومي لإنقاذ الوضع قبل أن تحدث الكارثة وتنتشر شطائر قنابل الفسفور المالية لتفتيت جسد الاقتصاديين الأمريكي والعالمي. وبالتأكيد فنحن نتعاطف مع تلك الأصوات ولكن من غير أن نرفع أصواتنا (رغم كوننا كعرب أصحاب ظاهرة صوتية) بانتظار الرجل (المنقذ) والذي لسوء الحظ يصارع شخصيا (حتى ساعة كتابة هذه المقالة) لإنقاذ نفسه من (ورطتي) التهرب الضريبي وتشغيل عاملة منزلية غير نظامية داخل مجلس الشيوخ لينال ثقة الشيوخ باعتماد تعيينه وزيراً للمالية. ورغم أن هاتين الزلتين تشدد القوانين الأمريكية في التعامل معهما إلا أن زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ السيناتور لاري ريد قد قلل من أهمية (الورطتين) وأبدى عدم قلقه على احتمالية تعيين الوزير غيثنر، والذي بلا شك أنه من مصلحة الاقتصاد الأمريكي والعالمي أن يتولى غيثنر مسئولية الوزارة رغم الخطأين اللذين إرتكبهما أعلاه، وقد بررت ذلك في مقالة سابقة لي في هذه الصفحة وقبل أن تظهر للعلن قضية التهرب الضريبي تلك.
المشكلة التي تواجه المؤسستين العملاقتين ليس فقط حاجتهما للسيولة لممارسة نشاطاتهما اليومية المعتادة من إقراض وتغطية التزامات فورية ولكن المشكلة تتجاوز إلى ما هو ابعد من ذلك حيث الحاجة لمزيد من السيولة لتغطية الخسائر المستقبلية والتي لم تطفو على السطح بعد (لا ننسى أن هناك الكثير والكثير جدا من الأصول المالية العديمة القيمة لا تزال تعتبر محاسبياً ذا قيمة وتدرج ضمن أملاك البنوك حتى اليوم). ويحذر الأكاديمي والخبير القانوني الأمريكي جوناثان ماسي وهو الذي كان قد ألف كتاباً حول إنقاذ النظام المصرفي السويدي خلال التسعينات الميلادية من أن المؤسسات المالية الأمريكية والتي تعاني حاليا أكثر من غيرها كبنك أمريكا وسيتي جروب سوف تنهاران لا محالة في حالة عدم تدخل الحكومة بصفة عاجلة لضخ مزيد من السيولة، بالإضافة إلى قيام الحكومة بشراء (كامل) أصول البنوك (عديمة القيمة) وليس كما يصفها بعض من كتابنا بأنها أصول (رديئة الجودة) على الأقل في الوقت الحاضر. ولعل اخطر تلك التحذيرات (وهو حقيقة ما دفعني لتخصيص هذا الموضوع لمقالة الأسبوع) هو ما صدر عن هيئة ضمان الودائع الأمريكية الشهيرة والمعروفة اختصاراً بـ(FDIC) على لسان رئيستها القوية شيلا بير وهي التي رشحتها مجلة فوربس العام الماضي كثاني أقوى سيدة في العالم بعد رئيسة الحكومة الألمانية السيدة انجيلا ميركيل، ولم تنجح السيدة شيلا حتى بعد اعترافها بأن المشكلة كبيرة وصعبة في تبديد قلق المستثمرين رغم شعورها به، ومما زاد الوضع سوءاً هو اعترافها بأن معالجة أزمة البنوك الأمريكية المالية الحالية سوف تستغرق وقتاً في زمن لا يحتمل التأخير. وهذا ما دفع سهم سيتي قروب لأن يتداول بأقل من 3 دولارات يوم الثلاثاء الماضي وبانخفاض قدره 20% وانخفاض بنسبة 29% لسهم بنك أمريكا.
ويجادل البعض بأن الخيار الأفضل (وهو احد الحلول المطروحة) هو قيام الحكومة الأمريكية بإنشاء بنك تتولى إدارته لشراء جميع أصول البنوك ذات المخاطر العالية بأنواعها وذلك لفسح الطريق لأي سيولة إضافية تضخها الحكومة داخل النظام المصرفي لكي تتجه لقنوات الإقراض لمحاربة الركود بدلا من قيام البنوك (بخزن) تلك السيولة الإضافية لدرء خسائرها المستقبلية.
ومن جهة أخرى يعتقد بعض الخبراء الماليين بأن الثقة في قدرة الحكومة (السابقة) على منع وقوع أزمة أخرى قد تضاءلت تماماً، والخوف أن ينسحب ذلك الاعتقاد على الحكومة الجديدة. ففي تقرير لها نشر الأسبوع الماضي قدرت جولدمان ساكس الخسائر التي ستتحملها البنوك والمستثمرين حول العالم بتريليوني دولار أو ما يقارب الثمانية تريليون ريال والتي لم يتم تحديد إلا نصفها حتى الآن. وإذا لم يستطع النظام المصرفي الأمريكي من معالجة هذه الخسائر بنفسه (يحتاج إلى ما يقارب تريليوني دولار كسيولة عاجلة) فإن المؤسسات المالية والبنوك التي تواجه المتاعب حالياً كبنك أمريكا ومجموعة سيتي جروب ستنهار حتماً لتنشر الرعب في مختلف مناطق العالم بحكم عالميتهما لتفتك بأجساد الاقتصادات العالمية كما فتكت قنابل الفسفور الإسرائيلية بأجساد أهلنا في غزة وزرعت الرعب في من بقي منهم على قيد الحياة.
قلبي مع مؤسساتنا وبنوكنا المحلية ذات الروابط المالية (التاريخية) مع النظام المصرفي الأمريكي، فهل من تحرك سريع لإنقاذ أسهمنا ومدخراتنا من مخاطر (إعصار) مالي قادم أو من مصادرة (تأميم) فيدرالي وشيك.
(*) أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية المشارك بجامعة الملك سعود
alhosaan@gmail.com