من يراقب ما يقوم به الملك عبدالله اليوم من قرارات تاريخية تتعلق بمستقبل الأمة العربية وإصلاح ذات الشأن بينها وتجاوز محن التاريخ والدخول من أوسع بوابات القرن الواحد والعشرين برفض الصراعات المذهبية والدينية والسياسية والتركيز على ما هو إنساني وعلمي يمكن أن يخدم الأمة العربية يعرف ماذا يعني أن توجد في فترة تاريخية يوجد فيها هذا الملك.
وهو في الداخل لم يكن أقل عنفوانا وإقداما إذ هو يحاول في شجاعة يحسد عليها من كان في عمره أن يتخطى المناطق الضبابية في حياة هذا المجتمع الحائر في ذاته والدخول إلى مناطق الاشتباك سواء ما تعلق منها بالمرأة أو الطفل أو إصلاح القضاء أو وضع الحدود المالية والتنظيمية للمؤسسة الدينية مع تثبيت المفاهيم الحقوقية لحقوق الإنسان والأقليات والدعوة الجريئة التي اقتحم بها عالمنا المحلي إلى العالم الأوسع لتأكيد مبدأ الحوار بين الحضارات ونشر السلام بين الثقافات والشعوب. وحين يكون المواطن محظوظا بدرجة أن يعيش فترة تاريخية يكون فيها ملكه أحد صناع هذا التاريخ يمكن له أن يكون سعيدا وآمنا وموقنا بحظه في المشاركة في دولة العدالة والرفاهية.
والمملكة ورغم ثقل البنية الديموجرافية لها مقارنة بدول الجوار في منطقة الخليج تمكنت من تحقيق مشاريع عملاقة على مستوى البنية التحتية وهي ماضية في مشاريعها نحو المستقبل بإرادة صلبة وبرجال ونساء يؤمنون بهذا الوطن على اختلافاتهم المناطقية والقبلية والمذهبية والفكرية فالانتماء في الأول والأخير لله ثم للدولة المدنية كما أقرتها الدولة السعودية ولذا فحرب التصنيفات التي تكاد تشل الكثير من مؤسسات الدولة وخاصة الحكومية أمر يجب طرقه رغم الحساسية العظيمة المقرونة به.
والأسئلة التي يمكن أن تطرح نفسها هنا هي ما أنواع هذه التصنيفات وكيف توالدت وتداخلت ضمن أجهزة نظام الدولة ومن الفاعلون على تكريسها وكيف يمكن مقاومتها؟
تتنوع التصنيفات ما بين المناطقية والقبلية والفكرية وهي في الفكرية أخطر ولذا سأركز مقالتي هذه عليها لأن التصنيفات الفكرية إن حدثت لشخص ما فإنها تتجاوز كافة التصنيفات فتصبح شاملة تتجاوز كل الدوائر السابقة التي ذكرت فحين يحدث أن تكون يافعا يقع تحت سطوة المد الديني المتطرف الذي غلف فترة الثمانينيات والتسعينيات ورغم إيمانك بالشأن العام والرغبة في المشاركة فيه بالقول والفعل وكان لديك الجراءة فعلا لمحاولة إحداث التغيير برؤية تتماشى مع هذه الأطروحات فإنك ستصنف على أنك (صحوي) أي منتم لفكر رفاق الصحوة بكل تداعياتها السياسية والاجتماعية والفكرية أو أنك كنت الصنف المضاد ممن تم تسميتهم بالحداثيين أو قد تنعت بأنك (ليبرالي) ممن يكون أحد ضحايا غلو الصحوة في حياته الشخصية والعامة لكنك من المؤمنين بحقوق المرأة والإنسان وبأهمية المشاركة العامة ودور مؤسسات المجتمع المدني في تثبيت السياسات والحقوق العامة وكلا التصنيفين رغم تناقضاهما في الرؤية وبرنامج العمل يحملان أثمانا باهضة على المستوى الشخصي والمهني لكل من حدث أن وقع ضحية لأحدهما.
الصحويون رغم أنهم استمتعوا بدعم رفاقهم المذهل والذين كانوا قد اخترقوا كافة أجهزة الدولة خلال الثمانينيات والتسعينيات لكنهم بدأوا في دفع أثمان عظيمة بعد حادثة سبتمبر الشهيرة التي أيقظت النيام إلى خطر المد السياسي (للمتأسلمين) فذهب في الأرجل من ذهب سواء تمتعوا فعلا بنشاط سياسي معاد أو كانوا من المتعاطفين الذين وجدوا هذه الأحداث فرصة للمراجعة وتبني نظرة أكثر نقداً لبرنامج الصحوة ولطروحاته وأبعاده بعد الأحداث الدامية التي شهدها العالم على أيدي بعض المتطرفين الذين ينسبون أنفسهم خطأ إلى الإسلام لكن ورغم هذا التحول الفكري الذي شهدوه إلا أن الكثير من التعميمات داخل المؤسسات العامة طالتهم كما أن الكثير من التقارير السرية داخل أجهزة الدولة المخابراتية ظلت محفوظة عنهم وتسري عبر الأجهزة السرية لتحدد موقف المسؤولين الكبار منهم عند أي ترشيح لمنصب أو لجنة أو سفرة أو أو إلخ.
والأمر نفسه تماما ينطبق على من قرنت مسيرتهم بالليبرالية نساء ورجالاً فمؤسسات الدولة وهي التي تم اختراق معظمها بواسطة كوادر صحوة الثمانينيات والتسعينيات تعمل في حذر لمراقبة أن لا يمنح هؤلاء (المتحررين) فرصة للظهور أو موقعا لصنع القرار وهؤلاء المراقبون المؤدلجون داخل كل جهاز يظلون يؤكدون للمهمين (الغامضين في الدولة) ولصناع القرار خطر هذه النماذج وعدم مناسبتها لسمعة المؤسسة المحافظة والصراع غير المرئي الذي يمكن أن يحمله ترشيحهم لبعض المواقع في مواجهة المؤسسة الدينية الرسمية وفي مواجهة توصيات بعض أجهزة الاستخبارات بتقاريرها ولجانها التي تراقب المواقع المختلفة.
إن هذه التصنيفات تعني أن المعني بالأمر وأكثرهم رجال ومنهم نساء بالطبع أن هذا (المصنف) خطر على الدولة وأن هناك هامشاً من التشكيك في ولائه وانتماءاته الوطنية وإلا فما الذي يجعله يتحدث مع وسائل عامة خارجية أو يتعاون مع إحدى الجمعيات الخيرية الخارجية في دراسات أو بحوث أو لقاءات كما أنه لا يردد الموقف الرسمي المصفق لكل شيء ولكل شخصية ويكفي أن يفكر بواقعية ويتحدث بواقعية عن نفسه ووطنه ليتهم بالتخوين وانقسام الولاء. هذا كان السائد في التسعينيات وبداية الألفين واليوم ورغم أن الدولة نفسها قد فتحت أبواها للعالم الخارجي وهي اتخذت مواقف أكثر ليبرالية في بعض خطواتها من معظم ما يمكن أن نأخذه نحن (حوار الأديان على سبيل المثال) ورغم أن اللهجة الرسمية قد تغيرت والصوت الإعلامي قد تقدم بمراحل تتناسب مع الأصوات الحرة التي تملأ الفضائيات ومنتديات الإنترنت إلا أن المواقف الرسمية داخل أجهزة الدولة الحكومية من هؤلاء (المصنفين) لا تتغير فالتقارير قد كتبت بواسطة أناس عملوا في أجهزة ما وهم أنفسهم بلا شك تغيروا كما تغيرت الدولة ليس حباً فيها بل حفاظ على مصالحهم لكن التقارير السابقة لم تتغير وبقيت ملفات (المصنفين) تدور في الأجهزة دون أن تجد من يصنفها أو ينصفها! والنتيجة أن هؤلاء تم تهميش جهودهم المهنية والعلمية وبعثرتها ورغم أنهم في العادة يكونون من المتميزين علميا ومهنيا إلا أن قدراتهم يتم إهدارها داخل المؤسسات ويتم تقديم أناس قد لا يتمتع بعضهم بذات الكفاءة أو المؤهلات أو الأقدمية الوظيفية يحتلون مواقع قد يسيء بعضهم فيها للمؤسسات ويضعفون الكفاءة الداخلية لعملها بحكم محدودية خبراتهم وانعدام رؤيتهم التاريخية والفلسفية لحركة المجتمعات ولتغير الثقافات أو بسبب شبكة علاقاتهم داخل الأجهزة التي لا تعتني بما ينتج قدر ما تقوم على مبدأ مشهور وسائد في المؤسسات اسمه الحركي شيلني واشيلك (اخدمني في قطاعك فاخدمك في قطاعي بغض النظر عن حاجات أو مخرجات هذا القطاع)!
والأسئلة التي تطرح نفسها هي من قبيل. على أي أساس تمت هذه التصنيفات.؟؟؟. ومن هم أولئك المفكرون الذين لا نعرفهم داخل أجهزة الدولة ممن يتمكنون بحكم عميق علمهم وصادق ولائهم والذين قرروا في غفلة من المجتمع أن هؤلاء (المصنفين) لا يتمتعون بهذه الولاءات بالدرجة التي تسمح أن نعاملهم مثل غيرهم من المواطنين ويتم تصنيفهم في أذهنة الأجهزة بهذه التصنيفات الهلامية واللا إنسانية.؟ من المسؤول عن هذا الإهدار لكل هذه الطاقات الوطنية وكيف تحقق الولاء والانتماء الوطني حين نصنف المتعلمين والنشطين فكريا واجتماعيا على أنهم خطر؟؟
المشكلة متجذرة في كل المؤسسات بدرجات متفاوتة ولا أملك أملا في من هم داخل هذه الأجهزة في الحساسية بهذه المشكلة أو محاولة تجاوزها فهي تتعلق بالبقاء في الكرسي وما يحمله من سلطة وعلاقات هي الأكثر أهمية بالنسبة لهم كما أن هذه التصنيفات (يتم تصنيفها) داخل المؤسسات على أنها أحد تلك المناطق الهلامية التي تتداخل مع عمل بعض الأجهزة الحساسة داخل أجهزة الدولة مثل المخابرات وهي المنطقة التي يصاب فيها كافة المسؤولين بالشلل وكأن قوى خارجية غير معرفة تتحكم بأجهزتهم لذا.. فإنني وبكل ثقة سأتجاوزهم هنا لأرفع صرختي هذه لقائد الأمة الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليمد يده الخيرة فيفتح الملفات النائمة ويساعد أجهزة دولته في تحرير نفسها من أخطبوط التصنيفات.