لم تكن معاناة أهل فلسطين في الوطن والشتات على مدى نحو ستين عاماً من جرَّاء الاحتلال والعدوان الإسرائيلي فحسب، بلْه كانت كذلك من جرّاء التجاذبات والصراعات العربية البينية، وتعاطيها مع الشأن الفلسطيني الداخلي ممّا مكَّن آلة الاحتلال والعدوان من استلاب المزيد من الأرض
والحقوق والممتلكات، وارتكاب المزيد من جرائم القتل والإبادة. في عام 1948م، كانت نكبة قيام الكيان الإسرائيلي بمباركة قوى الغرب على أجزاء من أرض فلسطين، وكان قيام هذا الكيان ثمرةً لجهدٍ ومخططٍ أُعدَّ بمكرٍ وخبثٍ ودهاء، منذ توصيات المؤتمر الصهيوني في عام 1897م، في مدينة بال بسويسرا مروراً باتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916م، بين بريطانيا وفرنسا لتجزئة بلاد الشام وتقسيمها، ومؤتمر الصلح عام 1920م، الذي تقرر فيه العمل على تنفيذ وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وانتهاءً بالاحتلال أو الانتداب البريطاني لفلسطين عام 1922م، الذي مهَّد الطريق لليهود لإعلان دولتهم، على أرض فلسطين لتكون قاعدة استعمارية استيطانية عنصرية للتسلُّط والعدوان على مقدرات العالمين العربي والإسلامي.
لقد تمَّ تنفيذ هذا المخطط الصهيوني بعناية فائقة، وإرادة دولية متنفذة، ومن ثمَّ فقد كان من المفترض أن تكون المواجهة والتَّصدي له، ولتبعاته، بالقوة والدهاء، والمكر نفسه، من خلال إدارة حكيمة حازمة ومنضبطة، قادرة على توحيد الجهود، وحشد الموارد، والرأي العام العالمي لخدمة قضايا الأمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين. ولكن هذه الفرضية لم تتحقق على صعيد الواقع العربي والفلسطيني إذ افتقد قواعد الحراك السياسي والجهادي المطلوب للتَّصدي لمؤامرة بمثل هذا الحجم، وهذا الإعداد.
صحيحٌ أنَّ أهل فلسطين والعرب قد واجهوا الانتداب البريطاني، والاجتياح الصهيوني لأرضهم وحقوقهم في مراحل زمنية معينة بالجهاد والمقاومة، والثورة والانتفاضة. ولكن هذا العمل الجهادي، وعموم نشاطهم السياسي قد افتقد على وجه العموم الإرادة والإدارة، والدعم والمساندة، فتراجعت وتيرته، وتقلصت فعاليته خاصة منذ ستينيات القرن العشرين المنصرم حين هوى العرب في مستنقع الخلاف والاختلاف، والخصومات المذهبية، والصراعات الحزبية والفكرية، والتبعية للشرق أو الغرب، وارتهن بعض منهم للمصالح والأجندة الإقليمية والدولية فكانت النتائج وخيمة، والعواقب سيئة، على مجمل الحراك العربي، إذ تبعثرت الجهود والطاقات، والموارد والإمكانات، واستعرت نار الفتنة والفُرقة، والخصام والاقتتال، وتدحرجت الكرة العربية الملتهبة إلى داخل البيت الفلسطيني، فانقسم وتشرذم إلى عشراتٍ من الحركات المتنافرة، والفصائل المتنافسة، انخرطت بدورها في نزاعات داخلية، وعربية، وإقليمية، وتَجَاذبتَْها سياسات المحاور، والصراعات البينية، والمصالح الضيقة، والمنافع الآنية، وكانت الحرب الأهلية اللبنانية أنموذجاً سافراً لإفرازات هذا التَّوجه، ونتائجه الكارثية على قضية فلسطين العادلة، وجهاد أهلها المشروع. في الجزائر إبان الاستعمار الفرنسي، تشكَّلت في عام 1951م جبهة التحرير الوطني الجزائرية لمقاومة الاستعمار الفرنسي، وخلال مسيرتها الجهادية نأت بنفسها عن المستنقعات والصراعات الداخلية، أو الخارجية، فتحققت لها الوحدة والاستقرار والثبات، ونجحت في نهاية الأمر في إرغام الفرنسيين على الرحيل عن الجزائر في عام 1962م.
إذن من أبرز عوامل نجاح العمل السياسي، والجهادي، وحدة الهدف، وصدق الانتماء، والإخلاص للقضية، والبعد عن سياسات المحاور والمصالح الضيقة، ولقد دفع العرب والفلسطينيون معاً من دمائهم وأموالهم، وجهدهم ومقدراتهم، أثماناً باهظة جرَّاء هذا التشرذم، وهذا الانشقاق، وكل يوم يمر عليهم، وهم على حالهم هذا يفقدون المزيد من القدرات والمقومات، وما اجتياح غزَّة الأخير إلا أنموذجاً جديداً، وحلقة أخرى من حلقات المسلسل العربي الطويل جداً، في التشرذم والانشقاق.
على أية حال نأمل أن تكون قمة الكويت، ومبادرة خادم الحرمين الشريفين لرأب الصّدع في العلاقات العربية البينية، والفلسطينية، بداية مرحلة جديدة في العمل العربي المشترك، لإنقاذ سفينة العرب من الخلل والعطب، وتحسين قدراتها الملاحية، وأنظمة الدفع فيها، لمواجهة موجات المدِّ، وعواصف البحر العاتية التي تهب من الشرق أو الغرب المتربصة بأُمَّة العرب، الساعية إلى بسط النفوذ والهيمنة، من خلال إذكاء بؤر التشرذم والانقسام بين دول منظومة الجامعة العربية.
فهل يستوعب العرب نُذُرَ وإرهاصات هذا الحراك المُحلق في الأجواء، وقرب الحدود.