لطالما تساءلت عن سر الحزن العميق الذي يكسو النغم العراقي الشعبي، ويظهره بصورة مأساوية ومؤثرة قد تصل أحياناً إلى درجة البكاء والشعور بالكآبة، لكن بعدما تم استبدال النظام السياسي في العراق أدركت سبب نبرة العراق الحزينة، وعلمت أن المأساة تكمن في أعماق العراق وتاريخه... إنها ثقافة كربلاء التي كانت ولازالت تمثل مصدر الحزن الدائم، والمخزون الهائل من تراجيديا المآتم.. بدلت المشاهد الحزينة لكربلاء طباع بعض العرب الجافة إلى شعوب تسكب الدموع، وتستكين إلى سيكولوجيا الحزن وجلد الذات، وإلى تأصيل تاريخ الظلم الذي وقع على سيد الشهداء الحسين بن علي في مشاهد أسطورية ونادرة في تاريخ البشر، ثم تحويلها إلى عقيدة يتم ترنيمها بنفس الإتقان كل عام لأكثر من عشرة قرون..
لكن هالة الحزن بدأت في الانحسار منذ حدوث زلزال الثورة الدينية في إيران، ومهما اختلف البعض مع توجهات ولاية الفقيه إلا أن تأثيرها كان بالغاً على العقل الشيعي المنكوب، والذي كان منطوياً لقرون تحت اعتقاد غيبي منتظر، يجمد كل حراك ديني سياسي، ويؤجل ذلك إلى يوم يخرج فيه أموات للانتقام من أموات خلت أزمنتهم ومضت، لكن انقلاب الفقيه على الإمام كان بمثابة إيذاناً بالخروج من دورة الضعف والعويل وتوجيه الإيلام لتاريخ انتهى بخيره وشره،... وهو ما أدى إلى تسخير مبادئ الثورة لخدمة إيران وأهدافها الجيو سياسية في المنطقة، وبالفعل مدت أذرعتها السياسية والعسكرية والثقافية إلى العراق وإلى جبل عاملة في لبنان، وهو الامتداد الذي بمثابة رد الدين لجنوب لبنان، والذي كان له في القرون الوسطى دور مؤثر في مساعدة الأسرة الصفوية في تحويل فارس من غالبية سنية إلى غالبية شيعية..
ساهم تخلي العرب عن أدوارهم الإستراتيجية في المنطقة إلى زيادة النفوذ الإيراني نتيجة لحسابات سياسية وضمانات دولية مضمونها أن القضية الفلسطينية في طريقها للحل إذا طلق العرب ثقافة المقاومة وفكر الجهاد، والذي نتج عنه لجوء جبهات المقاومة والجهاد في لبنان وفلسطين إلى إيران من أجل شراء الأسلحة.. إذ لم يلتزم العدو الصهيوني بالضمانات، فالاستيطان تضاعف عدة مرات منذ اتفاقيات السلام، والجرائم الوحشية ليس لها نهاية..
غياب الردع العربي في ظل استمرار جرائم ومذابح إسرائيل في الضفة وغزة، وقبلها في جنين وقانا ودير ياسين وغيرها كان بمثابة الصدمة المؤلمة للعقل السني العاجز والملتزم بأسطورة السلام، فخطاب الحزن والبكاء واللطم بدأت تظهر معالمه وتبرز نبرته في الخطاب الديني والثقافي والأدبي عند غالبية العرب، ومشاهد أجساد الأطفال الممزقة وصرخات النساء كفيلة بإحداث كربلاء أخرى في الضمير السني،.. موقف أشبه بذلك الذي شعر به أنصار الحسين بن علي عندما عجزوا عن نصرته مما أدخلهم في سرداب الإحباط والكآبة لأكثر من أربعة عشر قرناً...
ظاهرة كربلاء ومآتم الحزن المزمنة ضد الآخر كانت نتاج حالة الضعف والهزيمة والعجز ضد المعتدي الظالم، وما حدث في غزة خلال الأسابيع السابقة من عجز عن الرد وإيقاف الظلم الذي وقع على الأطفال والشيوخ والنساء سيخلف تأثيرات مشوهة داخل الضمير السني سببها تقهقرهم عن نصرة الأطفال والنساء.. ما لم يتم استدراك ذلك بمواقف سياسية قوية، وباتخاذ قرارات تؤسس لمرحلة الانتصار للمبادئ وللأرض ولصرخات المستضعفين من العرب والمسلمين..
يحاول بعض المثقفين توجيه اللوم على إيران وتبرير ضربها ومحاولة عزلها وتحميلها ما يحدث في فلسطين ولبنان من فوضى، وهو أسلوب غير مجد ويفتقر للحكمة، ويبرر بطريقة غير مباشرة نقطة التحول التي حدثت عند العرب منذ أن أبرمت إسرائيل اتفاقياتها مع دول الجوار، والتي اتسمت بالطمأنينة والاسترخاء، وهي رؤية لا تتفق مع الحالة السياسية في المنطقة، فالشرق الأوسط منطقة صراع سياسي، وجغرافيا سياسية قابلة للتشكل إذا تخلت دول الزعامة العربية عن إرادتها واستقلال قراراتها السياسية والاقتصادية..