دقائق بالأيام، وأيام بالسنوات إن لم أقل بالقرون، وغزة تحترق، بأطفالها بشيوخها بنسائها برجالها بغلالها، تلك الرقعة الأرضية الضيقة، والأكثر كثافة بالسكان، تتعرض لأعتى هجوم بري وبحري وجوي، وبأحدث ما توصل له العقل البشري من أسلحة دمار شامل. حرب كونية ثالثة، بتقنيات عالية، تشن ضد شعب أعزل لا ذنب له إلا أن يقول ربي الله، وأن يتمسك بالأرض والعرض، رغم الجوع ورغم الحصار، مسلسل رعب كل حلقة فيه أشد هولاً وأبلغ جرحاً من سابقتها، ضجت الفضائيات برائحة الدمار والموت، وتشبعت الأجساد الغضة بقنابل الفوسفور والدماء والمجهول، وبحت الحناجر في سائر أرجاء المعمورة متناسية الجنس واللون والدين.
|
بكى العالم الصغار يرقدون في أحضان أمهات توفين منذ أيام، وندب أطفالا بعمر الزهور تقتلهم وتشوههم آلة الموت الإسرائيلية، وانتحب وهو يرى الثكالى والأيامى ينادين بالأسماء، متمنين على الموت أن يترك لهم فردا من العائلة، مدنيون عزل ماتوا في المدارس والمساجد والمزارع، ماتوا وهم يحملون كسرة خبز وقفوا في طابورها أياما وليالي قبل أن ينالوها، حفنة حليب بذلوا من أجلها كل العرق وكل الجهد.
|
همومهم ومشاغلهم اليومية كانت وجهتهم حين حلقت أسراب (ف16 والمقاتلات الحربية) رشتهم فامتزجت الدماء بالأشلاء بالخبز، بالأرض بالشتلات، جماعات جماعات.
|
وابتهلت الأكف ضراعة إلى الحي القيوم؛ والآلة العسكرية تهدر وتنذر بيوم آخر مشؤوم، فهي لا تزال في أول حروفها الأبجدية، طغى التطور التكنولوجي وغابت الحكمة، والبقاء للأقوى، فلا مجال للمواعظ ولا التردد كما قال زعيم الحرب.
|
انقسمنا ودائما ننقسم، وتجادلنا ودوما نتجادل لنعلم أي الفريقين أطول لسانا، وأكثر بيانا والدماء، والجنس يباد والمسلمون في كل مكان يعيشون لحظات غزة، لحظات الدم والدمار، الموت والأشلاء، النواح والبكاء، غابت عنا أشياؤنا، وهرب النوم من عيوننا ونحن مسمرون أمام الشاشة الصغيرة لتزيدنا غصة بعد غصة كل دقيقة وكل ثانية، لا بسبب الحرب وحدها، وإنما بسبب التمزق العربي، والملاسنات في غير وقتها، والاجتماعات والاجتماعات المضادة، وتابعنا مكرهين لا أبطالا كل لقاء عسى ولعل أن يظهر بصيص أمل.
|
وجاءت قمة الكويت الاقتصادية، وسمعنا قبل انعقادها الكثير مما جعلنا نخفض سقف توقعاتنا، وفجأة جاءت اللحظة الحاسمة، بكل هدوء وحكمة، بكل قوة وإيجاز، جاءت مبادرة خادم الحرمين الشريفين: كلمة موجزة شخصت الأوضاع، وكممت أفواه الخطباء والكرماء، وبعثت الأمل في قلوب الملايين، تحدث بها هذا الإنسان تحوطه هيبة الملك، ووقار الإيمان، وعزة الإسلام،كلمة تعدتنا نحن العرب ووقرت في قلوب المسلمين في كل أرجاء المعمورة، وتجاوز نبضها الصادق إلى الإنسانية جمعاء،كلمة جاءت لتحق الحق، وتشكل الردع، وتواسي الجراح، هكذا يكون الكلام!!!
|
استوقفتني هذه الكلمات المحدودة في كمها والكبيرة في مضمونها؛ دعوة لكل العرب، ولكل أهالي فلسطين بالذات، إلى الاتحاد ونبذ للخلاف، بصدر مفتوح، وبنية صادقة. تهديد مفتوح ومن منطق عزيمة لا تفل، لإسرائيل، تلك الماردة المدللة التي أدمنت دماء العرب، وأعلنتها مائدة مفتوحة كلما تشاء، ونحن نلعق أصابعنا قهراً ثم تبرع كريم كان خادم الحرمين الشريفين أهلا له. وكأن على رؤوسهم الطير..
|
نعم، لقد عاش غزة أكثر مما عاشها أي إنسان، وسمع أنين المرضى ونواح الثكالى وآهات الصغار، وقد عرف أكثر من أي الناس مواجع المسلمين والعرب، فقدم الحل وأقام الردع.
|
وتذكرت - وأنا في أشد الأوقات تأزما - مع أني لا حول لي ولا قوة في كل ما يجري إلا ما أعيشه من هم بسبب غزة، والأوضاع في عالمنا العربي، تذكرت قول الشاعر العربي القديم:
|
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا |
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا |
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها |
وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا |
مقاديم في الهيجا مصابيح في الدجى |
بنى لهم آباءهم وبنى الجد |
ويعذلني أبناء سعد عليهم |
وما قلت إلا بالذي علمت سعد |
* كاتبة وأكاديمية موريتانية وأستاذة بجامعة الملك سعود |
|