حين نتذكر زمن الطفولة وشرخ الشباب نشعر بالحنين يشدنا إلى ذلك الزمن الجميل.. زمن البراءة والأحلام (العصفورية) الطازجة، ونتمنى لو عاد الزمان بنا إلى تلك الأيام الخوالي التي لا مكان فيها لهموم الأولاد، ومشكلات الحياة التي تقصم الظهر.
وكثيراً ما شعرنا أن زمن الطفولة والصبا هو أحلى لحظات حياتنا، لذلك نشعر بالشوق إلى أيام الدراسة والزملاء والمعلمين الذين لا يتكلمون كثيراً -مثل معلمي اليوم- فقد أنابوا عن ألسنتهم (الخيزران) التي لا تكاد تفارقهم.. خصوصاً أن أيامنا وأيام جيلي لا تخلو من (الفلكة)، وما أدراك ما الفلكة (كفاكم الله شرها)!!
لكن السؤال هو: هل أيام طفولتنا وماضينا هي كما نتصورها ونطلق عليها زمن العمر الجميل والأحلام العِذاب؟.. أم أن ذلك يأتي من شعور المرء دائماً بالحنين إلى ما يفقده.. أيام العمر الطري، والجيران النبلاء، والبيوت الحجرية والطينية، والمجتمع المتسامح، بدليل أن المرء منا لو سأل جَدَّه الذي تعدى المائة عن الماضي لأوغل في المدح والثناء والإشادة بتلك الأيام البعيدة، رغم أننا نعرف أن ذلك الماضي الذي يتحدث عنه.. لم يكن جميلاً ولا يحزنون.. فالخوف، والتقاتل القبلي، وقطْع الطرق يسيطر على مفاصل حياتهم قبل أن يُوحِّد أسد الجزيرة هذه البلاد، وبالكاد يحصل على لقمة عيش له ولأبنائه.. ناهيك عن انعدام وسائل الحياة من كهرباء، ومواصلات وطرق... إلخ.
إذن فالقضية لا تعدو عن أن تكون حالة عاطفية تشدنا إلى زمن الطفولة والصبا خصوصاً كلما تقدم بنا العمر، وتكالبت علينا ظروف الحياة المعقدة، وداهمتنا أمراض (الضغط والسكر)!
زمننا الماضي ليس جميلاً كله.. خصوصاً زمن الآباء، والأجداد الذي عاشوه، وقبل أن يعم الرخاء والازدهار ورغد العيش حياتنا.
لعل من حسنات ماضينا الذي ما زال جميلاً في أعيننا.. افتقاره إلى (مصيبة) (سوق الأسهم).. الذي عن طريقه تحولنا -نحن الذين دفعنا إليه أموالنا و(تحويشة أعمارنا)- إلى فقراء معدمين، ومرضى نفسيين، و(شبه شحاذين).. بعد أن ابتلعت أموالنا، وبددت أحلامنا، وسرقت النوم من أعيننا.. وتركتنا في (غيابة الجُبِّ).. نستجدى من ينقذنا!
لو قُدِّر لنا أن نعيش خمسين سنة قادمة.. هل ترانا نحنو على هذا الزمن ونتحسَّر عليه.. زمن تداول الأسهم، ومشغلي الأموال من النصابين وعديمي الضمائر الذين لهفوا أموال (الغلابة) والمساكين؟ أم أننا سنشعر بالرضا من واقعنا الذي نعيشه حتى لو كنا على (العكاكيز)، بالذات وقد تخلصنا من ذلك الزمن الذي تحوَّلنا فيه إلى متسولين يستحقون أن تُدفع لهم (الزكوات).. خصوصاً زكاة البنوك (المفترية) التي في رحابها يخسر الجميع.. بينما تُسجل الأرباح تلو الأرباح!!
إني لأزعم أن تعلقننا بالماضي -خصوصاً من هم في سني- له ما يبرره، فقد كانت الحياة أجمل، وكانت الألفة والمحبة بين الناس والجيران، ولم تكن المدن مكتظة بالبشر من مختلف السحنات والأجناس، بل إني لأعتقد أن (جدة) كانت في نظري أكثر نضارة قبل ربع قرن، وحين كنا لا نملك إلا دعاء الوالدين، وبعض الريالات القليلة التي ندفعها لسائقي (خط البلدة) لينقلنا من حي إلى آخر، وكانت (القاهرة) وقد زرتها قبل ربع قرن أجمل كما أتصور، وأقل ضجيجاً، وكانت تعج بالفعاليات الثقافية والعروض المسرحية، وأذكر أنني قد حضرت آنذاك مسرحية غنائية شارك فيها نجوم الفن والطرب في مسرح (البالون) بعنوان: (مصر بلدنا) وكان ثمن التذكرة (10) جنيهات، وهو مبلغ مرتفع وقتها حتى إن الفنان (صلاح جاهين) رسم في (الأهرام) كاريكاتيراً يُظهر رجلاً صعيدياً يتأمل لافتة عن المسرحية تقول: (مصر بلدنا 10 جنيهات فقط) فما كان من الصعيدي إلا أن قال: عشرة جنيهات.. دي مش بلدنا بقا!!
المهم، أن اشتياقنا وتحناننا وتشبثنا بطفولتنا وشبابنا، له ما يبرره في أحايين كثيرة فأجمل لحظات العمر هي هذه الفترة الطرية والنشطة والمفعمة بالحب والألق والعاطفة المتأججة والأحلام الوردية، ويبدو أن تقلبات الزمن الحاضر وحجم الكوارث والحروب والقلق والبطالة قد ساهمت بقدر أو بآخر في تعميق هذه الحالة التي تعترينا من وقت إلى آخر.
ثمة حبل سري يشد المرء منا إلى أيام السعادة الأولى والحب الأول في حياتنا، ويشعل في مساماتنا الصدئة مساحات من الفرح والبهجة، ويحملنا إلى عوامل رومانسية بعيدة.. لا نملك إزاءها إلا أن نصرخ:
آه .. كان زمان.. زماااان! قول للزمان.. ارجع يا زمان!!
alassery@hotmail.com