يختلف الناس في عقولهم، وأقدارهم، وعلمهم، واستقامتهم، ومع هذا التفاوت الذي يزيد أحيانا بينهم ويتضاءل أحيانا أخرى نجد أن جميع هؤلاء قد يقعون في الخلاف مع الآخرين، وقد يكون بينهم وبين الآخر محاورة، ومقاولة يتردد الكلام بينهم (بعجرفية تشتد معها أطناب مفاصلهم، وتتوتر أعصابهم) بما يؤول بهم إلى التقاطع، والتصارم، أو الندم، وقد حصل هذا في أفضل قرن من القرون السابقة، واللاحقة في عصر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:
* أخرج (البخاري) في صحيحه: (عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم فقد غامر (لأن الدخول في الخصومة مع الآخرين، كالمغامرة، والمخاطرة بالنفس) فسلم وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء (أي: معاتبة) فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر فقالوا لا فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر (أي: ذهبت نضارة وجهه من شدة الغضب على عمر، وفي رواية (يتمغر) أي: يحمر من شدة الغضب من المغرة، وهو الطين الأحمر) حتى اشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين (خاف على عمر من غضب النبي - صلى الله عليه وسلم-) فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها وفي رواية أخرى عند (البخاري): عن أبي إدريس الخولاني (قال سمعت أبا الدرداء يقول: كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضباً فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه...)
وكان غضب النبي- صلى الله عليه وسلم- ليس إقراراً بأن خطأ أبي بكر -رضي الله عنه- صواباً! ولكن غضب النبي- صلى الله عليه وسلم- على عمر لأن أبا بكر يطلب العفو منه؛ فلم يقبل:
* أخرج (الطبراني) في (المعجم الكبير): (.. عن ابن عمر أن أبا بكر الصديق نال من عمر شيئاً، ثم قال: استغفر لي يا أخي، فغضب عمر، فقال له ذلك مراراً، فغضب عمر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وانتهوا إليه وجلسوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لعمر يؤنبه): يسألك أخوك أن تستغفر له فلا تفعل فقال: والذي بعثك بالحق نبيا ما من مرة يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما من خلق الله بعدك أحد أحب إلي منه، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك لاحق ما من أحد بعدك أحب إلي من...) حصل الخلاف بينهم، وهذه المحاسبة الشديدة على المحبة العظيمة بينهم رضوان الله -تعالى- عليهم، حتى وصل الأمر كما في رواية البخاري السابقة أن أغلق عمر الباب في وجه أبي بكر، وهو يترضاه، فالخلاف لا يعني فساد الألفة والأخوة في الأصل، ولكن الخلاف، والخطأ واردان:
* أخرج (الترمذي) في سننه: (عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).
* بعد أن تعشرت قلوب الإخوان بسبب الخلاف، وتقاطع الآراء، أو اختلاف وجهات النظر، ترى اللّجَاج في حوارهم من فرط النزاع، والخلاف، حتى ذوي الود والأدب في حديثهم! بدأت تعرف وجوه القوم، وتنكر منها، كأن الواحد منهم ينظر إلى ريح عصوف، فلا يرفع جفن الرضا إلى أخيه.. وتارة ينظر إليه شزرا، بدل أن كان جرس كلماتهم نغمة الرضا، وصوت الأنس يصدح في مجلسهم.. اختبأت ابتساماتهم بينهم خلف عتمة النزاع، فأصبحت شفاههم كالجلود اليابسة القاحلة..!
تفرق القوم، وفي قلب كل واحد علقة سوداء على أخيه، تدابروا من مجلسهم، وهم يعرجون من البهر الذي في قلوبهم على بعضهم بسبب غمز كل واحد قلب صاحبه بألفاظ، وإشارات لا تليق بأخلاق المؤمن وهيئته، وسحنته..!
لا تزال فصول مجلس الخلاف تقطع أحشاءه، فيفزع منها كصرخات الرعد في سمع النائم! أدرك الطرفان بعد أن ذهب عتف من الليل، ثم شطر منه أن الخلاف كان لضحالة عقولهم، بدل أن يتعمق كل واحد في تجاوبه، ومبادئه، وتعاليم دينه، ويضمخ آراءه، وفكره بعطر الرفق، والتسامح، لكي يكون الخلاف مفيدا، يسترد كل حقه دون صخب، ولا جلبة، ولا فحش...!
بعد ذلك يريد كل طرف أن يستر عيبه، وأنه لم يرتكب خطأ، فشمخ بأنفه عند رؤية أخيه، أمال عنقه، وقلب وجهه، وصعر خده، فلا كلام، ولا سلام يريد أن يثبت أن له حقا مسلوبا، ينافح عنه، وهو في داخله يتمزع من الألم يريد أن يعانق أخاه، ويأنس به فهذا الجفاء الذي ولده ذلك الخلاف المقيت في الغالب لا يرخي عقدته، ويحل وكاءه إلا وسيط عبق لبق ظريف يصلح بينهم، ليشرق الصبح من جديد وتعود لذة الأخوة كلعاب الشهد، وعسل النحل في قلوبهم، إصلاح ذات البين هذه العبادة العظيمة التي لم يتزعمها في ذاكرة التاريخ إلا خيار القوم، وكرامهم.
وسأتحدث عن عبادة (إصلاح ذات البين) نصا، وتطبيقا من سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم-، وصحابته الكرام:
* أخرج (أبو داود) في سننه: (عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة) والسر في تفضيل درجة إصلاح ذات البين على درجة الصيام، والصلاة، والصدقة، لأن إصلاح ذات البين نفعها متعد إلى الآخرين، والمصلح يجاهد نفسه، ويحملها على الإصلاح، ويجاهد آراء الآخرين، وطبائعهم، ويداري ظروفهم، فهو يجاهد حال نفسه، وأحوال غيره. أما صاحب الصيام، والصلاة، والصدقة، فهو مشتغل بخويصة نفسه فقط.
قال صاحب (عون المعبود): قوله (وفساد ذات البين الحالقة): أي هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستأصل الموس الشَّعر.
* أخرج (الترمذي) في سننه: عن الزبير بن العوام: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا افلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم أفشوا السلام بينكم.
تحلق الدين؛ لأنها تفسد حال المسلم، وتمرض قلبه فيصبح خميجا فاتراً تجاه إخوانه المؤمنين وتندرس رسم حسناته في صحيفة أعماله، بسبب القسوة والظلم، والبغي، والإهمال ونصرتهم لبعضهم كما ينماع الملح في الماء، فتلقى الحقوق بينهم كالفرس الشرود تستعصي على صاحبها، فلا يحسون، ويهتمون بالحقوق التي بينهم، لفساد ذات البين، فتضحي ديار المسلمين داراً مضيعة.
* جاء في (شعب الإيمان) ل(البيهقي): (عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة وصلاح ذات البين وخلق حسن).
* وورد في (مسند) (عبد بن حميد)، وفي (مسند الشهاب القضاعي): (عن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أفضل الصدقة إصلاح ذات البين).
ويدل هذا على أن إصلاح ذات البين من الأعمال الفاضلة التي لا يفلح في السعي فيها، ويستمر عليها إلا الصادق في مبدأه، ونيته. أما كبار القوم الذي أصبحوا كباراً لقدم أعمارهم، أو مناصبهم دون أخلاقهم، وإصلاحهم في محيط مجتمعهم، أو الذين التزمت، واستقامت على الدين أشكالهم، والتزامهم في إصلاح رعيتهم التزام أجوف، فلا أظن أنهم يدخلون في الفضل الذي نصت عليه هذه النصوص الشريفة.
وإن كان هؤلاء من كبار السن، أو طلبة العلم، هم من الأسباب الظاهرة في فساد ذات البين في أسرهم، ومجتمعهم حسداً، وغلظة، وقلة دين، فأقرئ دنيا الفرح في مجتمعنا، وعوائلنا سلام الوداع، وانظر إليها كالأطلال، لأنها ستصبح كالذكرى والأحلام.
بارك الله لي ولكم في القرآن، والسنة، ونفعني، وإياكم بما فيهما من الآيات، والحكمة، واستغفر الله العظيم!
أما المواقف التي ورد فيها امتثال (إصلاح ذات البين) من نبينا - صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام:
أخرج (البخاري) في صحيحه: (عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أهل قُباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال اذهبوا بنا نُصلح بينهم).
وفي رواية عنده - أيضا: (عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن أناساً من بني عمرو بن عوفٍ كان بينهم شيء فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه يُصلح بينهم..).
وفي رواية عند الإمام (أحمد): (عن سهل بن سعد الساعدي يقول: وقع بين حيين من الأنصار كلام (حتى تراموا بالحجارة فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم..)).
أخرج (البخاري) في صحيحه: (عن سهل بن سعد قال جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت فقال أين ابن عمكِ قالتْ كان بيني وبينه شيء (أي: خلاف) فغاضبني فخرج فلم يقل عندي (لم ينم القيلولة عندها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان انظر أين هو فجاء فقال يا رسول الله هو في المسجد راقدٌ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تُراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول قُمْ أبا تُراب قُمْ أبا تُراب)) يترضى صهره علياً، ولم يعنف عليه لخصومته مع ابنته على رفعة منزلتها عنده، لكي لا يفسد البين بينه، وبين زوجته فاطمة.
(قال ابن بطال: وفيه أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طُبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يُعاب عليه.
وفيه كرم خُلق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه توجه نحو عليَّ ليترضاه، ومسح التراب عن ظهره ليبسطه، وداعبه بالكُنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يُعاتبه على مُغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عِنده، فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم ابقاء لمودتهم، لأن العتاب إنما يُخشى مما يُخشى منه الحقد).
أخرج البخاري في صحيحه: (.. أن عائشة حُدثت أن عبدالله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها فقالت أهو قال هذا قالوا نعم قالت هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة فقالت لا والله لا أشفع فيه أبداً ولا أتحنث إلى نذري).
وفي رواية عند البخاري في صحيح: (عن عروة بن الزبير قال كان عبدالله بن الزبير أحب البشر إلى عائشة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وكان ابر الناس بها وكانت لا تُمسك شيئا مما جاءها من رزق الله إلا تصدقت فقال ابن الزبير ينبغي أن يؤخذ على يديها فقالت أيؤخذ على يدي علي نذر إن كلمته)).
وعند الطبراني في (المعجم الكبير): (فقال: أما والله لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها، فقالت عائشة: أو قال ذلك؟ قالوا: قد قال ذلك، قالت: هو لله علي أن لا أكمله حتى يُفرق بيني وبينه الموت)).
وعنده - أيضا: (قالت: هو لله عليَّ نذرٌ أن لا أكلم ابن الزبير كلمة أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليها الناس حين أطالت هجرته، فقالت: والله لا أشفع فيه أحدا، ولا أحنث في نذري أبداً)) قالت ذلك من شدة غضبها عليه!
فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وهما من بني زهرة وقال لهما أنشدُكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحلُّ لها أن تنذر قطيعتي فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى استأذنا على عائشة فقالا السلام عليك ورحمة الله وبركاته أندخل قالت عائشة ادخلوا قالوا كُلنا قالت نعم ادخلوا كُلكم ولا تعلم أن معهما ابن الزبير فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد عملت من الهجرة فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تُذكرهما نذرها وتبكي وتقول إني نذرت والنذر شديد فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير واعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خِمارها).
فانظر كيف خفق الرضا بين ابن الزبير، وخالته عائشة رضي الله عنهما بعد أن تحققت القطيعة بينهما، وحنقت، واغتاظت عائشة على ابن الزبير فنذرت نذرا شديداً إن كلمته، مما زاد من رغبة عائشة في مقاطعتها له، وأكدت ذلك بقولها: (هو لله عليَّ أن لا أكلمه حتى يُفرق بيني وبينه الموت).
وردت شفاعة بعض الصحابة، وقالت: (والله لا أشفع فيه أحداً، ولا أحنث في نذري أبداً).
فجاءت شفاعة المسور بن مخرمة، وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث كالمطر الغيدق على أرض جرداء لم تكحل هضابها، وتخومها ظلال الغيم في السماء، فبشفاعتهما احتفلت القلوب باللباقة، والرفق، وأهل قلبُ عبدالله بن الزبير، وعائشة جميعاً إلى قدس الاخوة، ورحاب القرابة، والمحبة!
وقد أدرك القائمون على القضاء في هذه البلاد المباركة أهمية (إصلاح ذات البين) وأنه يصلح أكثر مما قد يصلح القضاء، وصكوك الأحكام، فتصريح وزير العدل في صحيفة الرياض في تسع وعشرين من شهر ذي القعدة الماضي يلخص المعنى الذي نريد! قال - حفظه الله -: (وقد تمكنت المحكمة الجزئية بمكة المكرمة في حل أكثر من ألف قضية عن طريق مكتب الصلح منذ إنشائه حتى الآن، في حين قامت المحكمة العامة بجدة بحل أكثر من ثلاثمائة وثلاث معاملات خلال عامي ألف وأربعمائة وثمان وعشرين وألف وأربعمائة وتسع وعشرين للهجرة بينما كان للمحكمة العامة في مكة، والمحكمة الجزئية في الرياض شرف البدء في مجال الإصلاح بتعيينها عدداً من الباحثين الشرعيين من أجل هذا الشأن). إلى آخر ما قال.