ميلاده ونشأته في طلب العلم
ولد الشيخ الجليل العلامة/ عبدالعزيز الناصر الرشيد عام 1334هـ في مدينة الرس إحدى مدن منطقة القصيم من أبوين كريمين، فأبوه الرجل الفاضل/ ناصر العبدالله الرشيد أحد أعيان ووجهاء الرس.. ووالدته/ منيرة المحسن الخليفة من أسرة الخليفة من تميم، وفي بواكير نشأته ومطلع صباه بدأ عليه النبوغ المبكر والذكاء الفطري الواقد فوفق في استغلالهما من أجل طلب العلم والمعرفة منذ الصغر فأخذ مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم من أشهر الكتاتيب المحيطة به ومن ثم بدأ يتلقى العلم من منابعه الثرة العذبة على يد شيخين جليلين هما عمه قاضي الرس ونواحيها في ذلك الوقت الشيخ/ محمد بن عبدالعزيز الرشيد والشيخ إبراهيم الضويان صاحب موسوعة (منار السبيل) وبطموحه وحرصه في الاستزادة من طلب العلم في جميع فروعه وتخصصاته في الشريعة واللغة وغيرها شد الرحال وهو في ريعان شبابه إلى الرياض عام 1353هـ، فأخذ يتلقى العلم بنهم وجلد على يد علمائها الأجلاء المشهورين وفي مقدمتهم سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم وشقيقه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ وغيرهما. وفي مطلع عام 1358انتقل من هناك إلى مكة المكرمة فتلقى فيها قسطاً وافراً من العلوم من علماء الحرم المكي الشريف، ولحصيلته الزاخرة من العلوم الشرعية تم تكليفه مع نخبة مختارة من أمثاله بمهام الوعظ والإرشاد والتدريس في أروقة الحرم المكي، ونظراً لكفاءته ونبوغه وتميزه كلف أيضاً وهو في مطلع شبابه بالتدريس بالمعهد السعودي بمكة استمر بهذه المهام يقوم بها خير قيام حتى تاريخ نقله لسلك القضاء حيث تم تكليفه وندبه قاضياً شرعياً لبلاد غامد وزهران - منطقة الباحة حالياً-.. وسوف نتطرق بالتفصيل في موضع آخر من المقال لتاريخ ومسلسل حياته العلمية والوظيفية في القضاء والتدريس والإفتاء ورئاسته لتعليم البنات.
مؤلفاته
رغم شغف علامتنا الجليل بالقراءة والاطلاع طيلة حياته وحرصه على الاضطلاع بواجباته الوظيفية المتعددة في القضاء والتدريس الجامعي وعضوية دار الإفتاء ومن ثم رئيساً عاماً لتعليم البنات وأخيراً رئيساً عاماً لهيئة التمييز فإن هذه المهام الجسام وغيرها لم تشغله عن التأليف والكتابة والمشاركة في المجالس العلمية والمحاضرة فيها وعلى إجابات السائلين في منزله بعد صلاة العصر يومياً وفي برنامج نور على الدرب، فقد سطر بأحرف من نور مكانته في المؤلفات الرصينة التي أثبتت على الدوام باعه الطويل في مجال التأليف ومدى غزارة علمه نذكر من هذه المؤلفات ما يلي:
1- عدة الباحث في أحكام التوارث: وهو كتاب قيم في علم الفرائض ألفه قبل خمسين عاماً لطلبته في المعهد العلمي ولايزال مقرراً دراسياً في المعاهد وطبع أكثر من عشرين مرة.
2- التنبيهات السنية في شرح العقيدة الواسطية.
3- إفادة السائل في أهم الفتاوى والمسائل - الجزء الأول.
4- القول الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
5- تفسير آيات الأحكام -خمسة أجزاء- لم يطبع بعد.
6- وهناك الكثير من المؤلفات والمحاضرات والبحوث العلمية القيمة التي كتبها.
وعندما تأخذ ما تستحق من التنظيم والتنسيق فسوف تأخذ طريقها للطبع والنشر بإذن الله تعميماً لفائدتها والحاجة الماسة إليها.
أولويات في حياته العملية والعلمية
1- من أوائل من تولى القضاء في ريعان شبابه حيث عهد إليه الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- مهام القضاء في منطقة الباحة - قاعدة بلاد غامد وزهران-. وذلك قبل ستين عاماً وكان حينها يرحمه الله لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره وكان قبل تكليفه بالقضاء يعمل مدرساً ومرشداً بالحرم المكي الشريف وإلى جانب ذلك كان يزاول التدريس بالمعهد السعودي بمكة الذي يتيح لخريجيه وحدهم في ذلك الوقت الابتعاث لاستكمال دراستهم التخصصية خارج المملكة.
2- عندما تأسس المعهد العلمي بالرياض عام 1371هـ كان فضيلة الشيخ عبدالعزيز ابن رشيد أول مدرس سعودي يتم تكليفه بالتدريس بهذا المعهد لكفاءته وقدرته إلى جانب المعلمين الأكفاء الذين تم التعاقد معهم من كبار علماء الأزهر الشريف ومن سوريا وغيرها، وهو أيضاً أول مدرس سعودي يتم تكليفه بالتدريس في كلية الشريعة واللغة عند تأسيسها عام 1373هـ.
3- عندما عقد ولاة الأمر العزم على تأسيس جهاز كبير يتولى شؤون تعليم الفتاة السعودية لتنال نصيبها من العلم والثقافة كان الشيخ العلامة بن رشيد في نظر ولاة الأمر هو المؤهل لهذه المهمة الكبيرة الجليلة، حيث عين كأول رئيس عام لرئاسة تعليم البنات في المملكة عام 1380هـ وقام بالواجبات الموكلة إليه خير قيام من واقع تخطيط مدروس قائم على أسس صلبة وقوية وسليمة وفق ثوابت هذا الوطن المبنية على تعاليم الدين الحنيف. وكان بعد صدور الأمر السامي الكريم بتعيينه قد اختار إلى جانبه نخبة مؤهلة وكوكبة لامعة من خيرة الشباب المثقف الواعي المتسلح بسلاح العلم والأخلاق والتربية الإسلامية الرفيعة والخبرة الإدارية مما جعل الرئاسة تتخطى الصعاب وتحقق الأهداف المنشودة في وقت مبكر وتحوز على رضا المسؤولين والمواطنين على حد سواء.
4- حين صدرت الموافقة الكريمة على إنشاء هيئة للتمييز في عاصمة البلاد تكون من مهامها تمييز القضايا والأحكام الصادرة من المحاكم الشرعية بالمملكة وغيرها من الواجبات، ونظراً لمكانة الشيخ عبدالعزيز العلمية وخدمته الطويلة في سلك القضاء والتعليم العالي وعضويته في دار الإفتاء برئاسة سماحة مفتي الديار السعودية محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- فقد رأى ولاة الأمر إسناد رئاسة هذه الهيئة إلى فضيلته وكان من أعضاء هذه الهيئة في عهده المشايخ: صالح بن علي الغصون، محمد البواردي، محمد بن إبراهيم بن جبير محمد بن سليم، وهم الآن جميعاً في رحاب رب كريم رحيم في الدار الباقية إن شاء الله.
5- كان يرحمه الله أول عالم معاصر يقوم بتأليف كتاب ميسر ومقرر معتمد وافٍ لمادة الفرائض هو كتاب عدة الباحث في أحكام الموراث ولايزال مقرراً على المعاهد العلمية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منذ تأليفه قبل خمسين عاماً وحتى الآن، وقد تمت طباعته أكثر من عشرين طبعة وتمت ترجمة مادته بإشراف مترجمين كبار إلى اللغات الإنجليزية والأردية والتركية.
6- أول من قام بشرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام بن تيمية شرحاً وافياً في كتاب - قوامه أربعمائة صفحة من القطع المتوسط- سماه: (التنبيات السنية في شرح العقيدة الواسطية). وكان قبل أن يجمعه ويعده للطبع يحاضر بمادته طلبته في كلية الشريعة بالرياض فيها ومن ثم طلبته في المعهد العالي للقضاء.
العلامة الجليل في نظر معاصريه
قبل سبعة أعوام جمعتني مع معالي الشيخ راشد بن خنين المستشار بالديوان الملكي مناسبة عابرة بطرق الصدفة ولكنها كانت حافلة بالحديث الشيق المختصر المفيد. لقد خرجنا سوياً من صلاة العصر في المسجد النبوي الشريف اجتمعنا بعدها في صالة أحد الفنادق الكبيرة المحيطة بالحرم، دار موضوع الحديث أثناء تلك اللحظات عن أستاذه في كلية الشريعة وزميله فيما بعد في دار الإفتاء قبل أربعين عاماً الشيخ العلامة عبدالعزيز الرشيد فأثنى عليه ثناء عاطراً مقدراً للشيخ دوره المتميز الفاعل في تخريج وتأهيل كواكب متتالية من طلبة كلية الشريعة بالرياض ومن ثم معهد القضاء العالي.. تولت هذه النخبة بعد تخرجها الكثير من المناصب الحيوية المهمة في القضاء وهيئات التمييز ومراكز الحسبة وغيرها من المناصب الرفيعة في أجهزة الدولة.
وفي ختام ذلك اللقاء قال معاليه إن سيرة الشيخ عبدالعزيز تحتاج إلى سجل شامل تطرز فيه أعماله الجليلة وأياديه البيضاء وجهوده المتواصلة طيلة سنين خدمته التي تجاوزت خمسين عاماً بلا انقطاع وما قاله الشيخ راشد أضاف إليه معالي الشيخ منصور المالك رئيس ديوان المظالم سابقاً أحد تلاميذ الشيخ عبدالعزيز الأوفياء المخلصين فقد قال لي أكثر من مرة بأن علم الشيخ الغزير في مادة الفقه وقدرته الفائقة والشيقة في تدريسها بشمولية وعمق كان لذلك أكبر الأثر فيما وصل إليه طلابه من التفوق والنجاح في حياتهم الدراسية والعملية، وعندما أفضى إلى ما قدم قبل خمس عشرة سنة تبارى رجال العلم والقلم من تلاميذه وزملائه ومحبيه بالثناء عليه وذكر فضائله على العلم والإشادة بما تركه بعده من مؤلفات قيمة، وقد رثاه الكثيرون شعراً ونثراً في معظم صحفنا المحلية ومن خيرة من رثاه في كلمة ضافية شافية تلميذه الدكتور/ صالح بن عبدالله المالك وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية آنذاك أمين مجلس الشورى حتى وفاته يرحمه الله.. ولعل النية تتجه بتوفيق الله إلى تأليف كتاب عن حياة الشيخ بجهود ومتابعة أبنائه البررة الذين كما أعرفهم بأنهم معدن الوفاء والبر بوالدهم في حياته وبعد مماته.. وذلك بمشاركة تلامذة الشيخ وزملائه ومحبيه. آملين أن يكلل هذا الجهد بالتوفيق.
وفاته
قبل فجر يوم الاثنين الموافق 4-3- 1418هـ من الهجرة ودع عالمنا الجيل هذه الدنيا الفانية بعد أن أسلم روحه الطاهرة إلى بارئها بعد جهاد طويل متواصل في طلب العلم والمعرفة وحياة حافلة بالعطاء المثمر اليانع المتواصل في خدمة الدين والوطن في مجال التعليم والقضاء والإفتاء والوعظ والإرشاد والتأليف، وقد شهد الصلاة عليه ظهر ذلك اليوم جمع غفير من المصلين من داخل الرياض وخارجها، اكتظ بهم جامع الإمام تركي بن عبدالله يتقدمهم الأمراء والعلماء وطلبة العلم وأهل الخير من يعرفه ومن لا يعرفه، وقد أم المصلين عليه رفيق دربه في العلم والعمل سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمهما الله جميعاً، وقد شيعه الآلاف إلى مقبرة العود حيث دفن هناك، وقد عانى في أواخر حياته رحمه الله من بعض الأمراض التي كان يتحملها صابراً محتسباً مما اضطره أخيراً لسفر إلى الخارج بصحبة ابنه البار المهندس/ عبدالله وبعد استكمال الفحوصات وتحسن صحته عاد إلى أرض الوطن... ولكن الآلام ما لبثت إلا وعاودته مرة أخرى فأصبح يتلقى العلاج في مستشفياتنا، وظل في منزله يناجي الخالق العظيم يستقبل محبيه وعارفي فضله حتى لقي وجه ربه راضياً مرضياً بإذنه تعالى رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
لنتذكر هؤلاء الرواد
أحسب أن المسؤولين عن شئون تعليم البنات بعد التنظيم الجديد أي بعد أن أصبح تعليم البنات تحت مظلة وزارة المعارف يشكل الكفة الأخرى مع تعليم البنين، أحسب ولست متشائماً ولا مستكثراً أن المسؤولين قد فطنوا أو ربما فكروا بعد عملية التنظيم بتثمين جهود الرؤساء الكبار الذين تعاقبوا على تولي كرسي رئاسة تعليم البنات طيلة الخمسين عاماً الماضية وهي عمر تأسيس الرئاسة العامة -وما بذله هؤلاء الرؤساء- عند تسنمهم على التوالي هرم المسؤولية- من جهود حدثيثة وما تركوه بعدهم من بصمات بارزة متميزة في ميادين العطاء والبذل بلاحدود وما تحملوه لقاء ذلك من أعباء جسام حتى وصل تعليم الفتاة السعودية إلى هذا المستوى المتقدم الرفيع الشامل الأمر الذي يحفزنا ويدعونا هنا إلى أن نتذكر بالوفاء والعرفان جهود هؤلاء الرواد الأفذاذ أسوة بما نتذكر به جهود المسؤولين الذين تعاقبوا على وزارة المعارف.. هؤلاء الرؤساء هم فضيلة الشيخ/ عبدالعزيز الناصر الرشيد كأول رئيس عام لتعليم البنات صدر الأمر الملكي الكريم بتعيينه بهذا المنصب المهم عام 1380هـ واستمر بعمله إلى أن أسندت إليه رئاسة هيئات التمييز بالمملكة وتفرغ لها وجاء بعده فضيلة الشيخ ناصر الحمد الراشد رحمهما الله تعالى.. ومن ثم جاء بعدهما على التوالي المشائخ الأفاضل: راشد بن خنين، محمد بن عودة، عبدالعزيز المسند، عبدالملك بن دهيش، علي المرشد، حتى وقت قريب حيث صدرت الإرادة السامية الكريمة بتوحيد الرئاسة مع المعارف من أجل مزيد التنسيق والتنظيم وترشيد الإمكانات وتركيز الجهود بما يحقق المصلحة العامة.
بقي في النهاية أن نناشد وزارة التعليم ممثلة بوزيرها الشهم الهمام وسمو نائبه لشؤون تعليم البنات أن يتذكرا معاً جهود هؤلاء الرؤساء وتترجم هذه الذكرى بإطلاق أسمائهم على بعض المرافق التعليمية الحيوية أو قاعات الاجتماعات الكبرى أوصالات القراءة الفسيحة بكليات البنات ومكتباتها.. لتبقى هذه المسميات التشريفية عنوان وفاء وذكرى لهؤلاء الرجال الذين أعطوا بلا حدود في هذا الجهاز المهم وسطروا أنصع الصفحات في الإخلاص والتضحية.
عبدالله الصالح الرشيد
كاتب صحفي - مدير عام تعليم سابق
abo.bassam@windowslive.com