بارك الله في قيادة بلادنا، ممثلة في خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين، إذ تأتي مسؤوليات تطوير التعليم في قمة اهتماماتهم.
فلقد جاء مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام منذ نحو عامين، جاء رغبة قوية منهما - يحفظهما الله - في بعث الروح القوية إلى التعليم العام بصفة خاصة، وكان ما خصص من أموال لهذا المشروع (من خارج الميزانية) وهو تسعة مليارات كماً هائلاً قادراً على تحقيق قفزة عملاقة في كل جوانب التعليم العام.
وبوصفي أحد من يتشرفون بالانتماء إلى هذه المهنة، معلماً ومديراً، ثم مدرباً للمعلمين والمشرفين والمديرين، وبوصفي محباً لهذه الرسالة مما جعل أبنائي الذكور والإناث يحبونها مثل حبي لها؛ فكلهم الآن في روضتها، وكلهم يتشرفون بالعمل فيها، ويسهمون حاذقين في تطوير أساليب التعليم بها مما جعل طلابهم يتفوقون على أقرانهم فيما تعلموه على أيديهم.
أقول: إن انتظاري لنتائج مشروعات التطوير - مثل غيري من المنتمين إلى التعليم - طال به الأمد، فمع مرور الوقت لم أر بدايات تطوير حقيقية، وكل ما رأيته هو هذا المبنى الفخم الضخم الذي تم استئجاره في مدينة الرياض، ووضعت عليه لافتة طويلة باسم (مشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام). ومنذ أسبوع اجتمعتُ مع بعض من مديري المدارس الثانوية التي اختيرت مدارسهم لتكون حقلاً تجريبياً لتحقيق هذا التطوير المنشود.
فحدثوني أن العام الدراسي الحالي 29 -1430هـ سيكون نقلة نوعية للتعليم الثانوي في هذه المدارس التي هي محل للتجربة؛ إذ سيكون أمام كل طالب فيها جهاز كمبيوتر شخصي، وكذلك المعلم، وستكون في كل فصل دراسي (سبورة ذكية)، ولا اعتراض لي على هذا، وإن كنت أثق أن هذه الإجراءات ليست المستحقة للأولوية في تحقيق التطوير المنشود.
إن منظومة التعليم لابد أن تكون متكاملة، وحلقاتها متداخلة، وكل حلقة ترتبط بالتي تليها كالبنيان المرصوص، إذ لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يتم تطوير مرحلة دون أخرى، ولا يمكن تطوير وتحديث قمة الهرم دون أن نهتم بتأسيس وتقوية القاعدة التي يقوم عليها البناء بمراحله المختلفة، فيكتمل في صورته النهائية، ويكون قوياً في مواجهة متطلبات العصر، وحاجة الوطن إلى أبنائه المؤهلين للنهوض به.
ومشروع التعليم الجديد أو تطوير التعليم العام يقوم عليه رجال نقدرهم ونقدر جهدهم، لكن الرأي عندي هو أن ينظر القائمون على هذا المشروع إلى أن للتعليم العام حلقات أربع:
1- مرحلة الصفوف الأولية (3 سنوات).
2- مرحلة الصفوف العليا بالمرحلة الابتدائية (3 سنوات).
3- المرحلة المتوسطة (3 سنوات).
4- المرحلة الثانوية (3 سنوات). وهذه المراحل السابقة أُمثلها بعمارة قديمة متهالكة من أربعة طوابق، وكل طابق به ثلاث شقق، أراد أصحاب الرأي من سكانها تجديد الطابق الرابع، حيث أرادوا تحديثه بزيادة حديد التسليح والخرسانة به، مع تزويده بأنظمة متطورة من تقنيات العصر، حسب أنظمة البناء الحديث مثل نظام الإنذار المبكر ضد الكوارث الطبيعية من الزلازل والهزات الأرضية والحريق وغيرها، كل هذا كان رأي المخططين على الورق، لكن إذا بدأ تنفيذ المخططات والطموحات على الطبيعة، فإنني أظن أنه لا حاجة لهم بشراء وتركيب تقنية الإنذار المبكر؛ لأن العمارة سوف تسقط بمجرد وضع الأحمال الزائدة عليها من الحديد والخرسانة المسلحة، عندها يكون المخططون قد خسروا الجهد والمال والوقت، علاوة على أعداد الضحايا الذين سقطت عليهم العمارة، بالإضافة إلى المشردين في الشوارع بلا مأوى؛ لأن التخطيط السليم يأتي من القاعدة، لأنهم إذا أحسنوا وأتقنوا صنع القواعد، استطاعوا أن يُعلَّوا البنيان بثقة وأمان، مع توفير الوقت والجهد وترشيد المال.
وتطوير التعليم يجب أن يبدأ من الصف الأول الابتدائي لأنه القاعدة والأساس، وكذلك الاهتمام بالصفوف الأولية كلها. وإذا اهتممنا بالقاعدة وقوتها استطاع طلابنا في الصفوف التالية لها أن يواصلوا تعليمهم بقوة وأن يدخلوا الجامعة أو أن ينخرطوا في سوق العمل، ولن يكونوا مشردين في الشوارع.
وسيجدون الأمان الوظيفي، ويفيدون أنفسهم ووطنهم ومواطنيهم، ويكون منهم أصحاب المؤهلات العليا الذين يخططون للأجيال التي تليهم. والاهتمام بتطوير مرحلة الصفوف الأولية هو تطوير لنظام التعليم العام بكامله، وبالطبع لا ينفي ذلك ضرورة تطوير المراحل التالية بالتتابع، ولكن الاهتمام بتدعيم مرحلة الصفوف الأولية هو تدعيم لمسار التعليم كاملاً حتى الوصول للجامعة.
لأن تعليم الصفوف الأولية في السابق كان ضعيفاً وينظر المعلمون وبعض أفراد المجتمع إلى معلم الصف الأول نظرة دونية، وبعض المعلمين يتأففون من التعامل مع الأطفال الصغار، وبعض مديري المدارس يعتبرون تدريس الصف الأول عقاباً للمعلم غير المرغوب فيه، أو يوكلون تدريسه إلى المعلم الأقل عطاء ونشاطاً، والمعلم الأجود يدخرونه للفصول العليا من المرحلة الابتدائية.
فلما أحست الوزارة منذ عدة سنوات بتدني العطاء، وقلة الاهتمام، وضعف المخرجات، وعزوف المعلمين عن تدريس الصفوف الأولية، جعلت لمعلمي هذه الصفوف ميزة تشجع المعلمين لِيُقْبِلوا راضين على تدريسها، فأقبل المعلمون عليها. ولكن اندس بينهم بعض من ليسوا أهلاً لتدريسها من الذين يريدون الاستفادة من مميزاتها، ولكنهم يجهلون أساليب العمل فيها، ويعتبرون الفوز بها مجرد فوز بميزاتها، دون معرفة بطبيعة الطفل في هذه المرحلة، وليس لديهم القدرة على التعامل مع تلاميذها، كما أنهم لا يحيطون بأساسيات العطاء التعليمي فيها.
عند هذا فاز المعلمون المندسون بالمميزات وخسر تلاميذنا النتائج التي كانت أهدافاً لصانعي السياسات التربوية. إن العالم اليوم في تقدم مستمر، وعندما تسوِّق شركة ما لجهاز تعطي معه دليل المستخدم، كما أنها تضع لهذا المنتج حماية، وهذا ما لم تعمله وزارة التربية والتعليم.
وكان الواجب على الوزارة أن تضع نظاماً لمعلمي الصفوف الأولية من حيث الاختيار، والتدريب، والتقويم، ومتابعة النتائج، وإصدار شهادة كل ثلاث سنوات تسمى شهادة قيادة الصفوف الأولية، ينالها الجدير بها، وتسحب ممن تقل إنتاجيته، وبذلك تحمي الوزارة نظامها الجديد للصفوف الأولية وتسعى لتطويره.
مع ملاحظة ما يأتي:
1- اختيار المعلمين بعيداً عن العواطف والمحسوبيات، بحيث لا يُسند التدريس في الصفوف الأولية لمن يطلبه من أجل مميزاته، وإنما لمن يستحقه لقدراته.
2- تدريب المعلم تدريباً عالياً على كيفية التعامل مع الأطفال الصغار، وعلى طرائق التدريس لهذه المرحلة العمرية الحساسة مع استمرارية التطوير والتجديد.
3- أن يكون التدريب نظرياً وعملياً، وأن يكون مستمراً طيلة الفصلين الدراسيين؛ لأن المهارات الأساسية كثيرة، وكل فصل دراسي له مهارات أساسية خاصة به، وكل مهارة لها مهارة سابقة ومهارة لاحقة لها صلة بها، وبذلك تُربط المهارات ببعضها، وتُكَوِّنُ قوة تعليمية لدى الأطفال.
4- التركيز في التطوير في مرحلة الصفوف الأولية يكون على المعلم الكفء المتجدد العطاء، إذ إن ذلك هو ما يحتاجه المعلم قبل احتياجه إلى التقنية، والتقنية مطلوبة، ولكنها مطوعة بيد المعلم، يدخلها في وقتها المناسب.
5- إنه من المعلوم أن التقنية الحديثة يحتاجها المعلم لكل مراحل التعليم، بما في ذلك المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية وللدراسات العليا؛ كل ذلك رغبة في تمكين الطالب من البحث والتفكير، والاستنتاج والاعتماد على الذات.
وأن هذه التقنية وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، وكل ما أخشاه هو أن الوسيلة هُيِّئَت في تلك المدارس التجريبية، ولكن الغاية لم تتبلور!!
6- وأنا أقرر أن المعلم هو مفتاح التطوير وأدواته، وأستشهد بمقولة كان يرددها في كل المناسبات التربوية أحد المسؤولين التربويين الكبار، إذ يقول: (أعطني معلماً يتملكه عشق عارم لمهنته، أضمن لك النتائج ولو قام بتدريس التلاميذ تحت ظل شجرة). أيها السادة مسؤولو التعليم في بلادنا: تذكروا أن التربية الحديثة تنادي بالاهتمام في المقام الأول بالتنشئة على السلوك الأخلاقي السويّ، وأن مهمة المدرسة من خلال معلميها المؤهلين هي: (علمني كيف أتعلَّم).
لقد صدر كتاب منذ عشر سنوات أثبت بالأدلة العلمية القاطعة أن السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية هي الركيزة؛ فإن كانت ركيزة قوية مؤسسة على قواعد صلبة قامت عليها كل المراحل التعليمية الأخرى دون تزعزع.
ولذا يقول أحد كبار المربين: (مَكِّن الطالب مع نهاية السنة الثالثة الابتدائية من القدرة على القراءة والكتابة بفهم مع استيعاب لأهم مبادئ الرياضيات، أضمن لك تفوقه ليس في الدراسة عبر كل مراحل التعليم فحسب، وإنما في حياته كلها).
إن هذا ما وفقني الله إلى تحقيقه في المدارس التي قمت بمهمة التدريس فيها سابقاً، أو التي دربت معلميها لاحقاً ولا أزال أدرب معلمي ومعلمات المدارس التي أسستها في الطائف والرياض. إذ إن من يُنْهي السنة الأولى الابتدائية من تلاميذها يصبح قادراً - والحمد لله - على السرعة في القراءة والكتابة باستيعاب للمعاني وفهمٍ لها، وبعد هذا يشق طريقه في الدراسة دونما معاناة.
ولي مقولة في هذا الشأن استنتجتها من تجارب السنين والتعامل مع الأطفال الصغار: (إن للتميز حلاوة فمتى ما ذاق التلميذ الصغير حلاوة تميزه فلن يُفرِّط في تمييزه طيلة حياته). وكان مما أثلج صدري أني سمعت معلماً مجيداً يقول: (إن بلوغ المرحلة الجامعية والتميز فيها يكمن في تأسيس الصفوف الأولية).
حين حدثني مدير المدرسة الثانوية التي سَيُعْطَى لكل طالب فيها جهاز حاسب آلي ابتسمت وقلت له: يا عبدالله: (هذا أمر حسن وأظن أن أغلب طلاب الثانوية لا يجيدون القراءة السليمة المسترسلة كما أن كتاباتهم تغلب عليها الأخطاء الإملائية وسوء الخط فكيف يستفيدون من هذه التقنية وهم يفتقدون لأهم عناصر التعليم، - القراءة والإملاء) والأجدر هو تهيئة نفوس هؤلاء الطلاب وتهذيبهم سلوكياً لأن التقنية وحدها لن تغيرهم وأخشى أن يغيروا هم في التقنية وأن يسيئوا استعمالها أو أن يعبثوا بهذه الأجهزة على غرار عبثهم بمبنى المدرسة، وسوء استعمالهم لمعداتها، وأثاثها، كما هو الشأن الذي لا إنكار لحدوثه، أو كما يتكرر في تعطيل المختبرات العلمية في مدارسنا. وقلت لمدير المدرسة الثانوية: (إن هذه النقلة في تطوير التعليم التي أنتم فرحون بها قد طبقتها في مدارسي قبل عقد من الزمان؛ وقد عدلت فيها وطورتها عدة مرات وجنيت ثمارها.
لكن الفارق بيننا أنكم تزرعون في الأحراش في أرض مليئة بأشجار الطلح والأثل وشيء من سدر قليل؛ وأنا أزرع في أرض بكر خصبة صالحة للزراعة أزرع وأجني حلو الثمر.! وأنتم تجنون مما تزرعون!).
أيها السادة مسؤولو التعليم في بلادنا: قيادتنا لم تترك لكم عذراً، فالله الله في العناية بالمعلمين وشحذ هممهم، وحسن اختيارهم، واستمرار تدريبهم، وصقل مواهبهم، وإعطائهم حقوقهم ومحاسبة المقصر منهم، فإن هم أجادوا أصبح التعليم كله جيداً ومتطوراً، وعليكم التصرف في هذه الأموال الكثيرة بما يحقق الغاية المنشودة منها. وهذه الأموال والمعلمون والطلاب وآمال ولي الأمر وآمال الشعب السعودي أمانة في أعناقكم.
المدرب التربوي والمشرف العام في مدارس أوائل المبدعين بالرياض