منذ سنوات طويلة لم تنعم بلادنا بأمطار موسمية مثلما نعمت به هذا العام بفضل الله ورحمته بالبلاد ولطفه بالعباد الذين ذاقوا شدة الجدب والقحط خلال السنوات أو عقود مضت، مما أدى إلى نقص مخزون المياه الجوفية، وغور الآبار، وتوقف ما بقي في البلاد من عيون.
وفي أوج الشدة والقنوط تأتي رحمة الله، وتهطل الأمطار على كل أرجاء بلادنا، وتجري أودية لم تجر منذ بضعة عقود ويقبل الخير عميماً، وترتسم البسمة على الشفاه، وتعود للصحراء بهجتها بعد سنوات من العبوس والاكفهرار، وصدق القائل: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
ومع أن فرحة الإنسان الغامرة بماء السماء في البلاد الصحراوية هي هي من بداية العصور البدائية إلى عصر المياه المحلاة والأعلاف المستوردة، إلا أن الذي يظهر أن أجيالنا المعاصرة أكثر إسرافاً وأقل شكراً، وأسوأ تعاملاً مع هذه النعمة الإلهية... فالأولون لم يكن لديهم سيارات ولا دراجات للتطعيس والتفحيط والدوران على وجه التلال الرملية المتشبعة بماء المطر؛ والرياض المتحفزة لتلبس رداءها الأخضر.. وليس لديهم أكوام من علب المشروبات الغازية والعصائر الصناعية والأكياس البلاستيكية ينثرونها بفوضوية على وجه المناطق البرية لتلوث غدرانها، وتشوه رياضها، وتلتف على أشجارها لتذهب بهاءها ونضارتها.
أقول هذا بعد أن ساءني كما ساء كثيرين غيري ما نراه من عبث غير مسؤول بالأرض جراء ممارسة المتنزهين والمفحطين ومن في حكمهم. فالعشب يداس بلا مراعاة، والفقع لا يسمح له بأن يكتمل وينضج، بل يتم نبشه من حين تكون نواته الأولى، والطيور المهاجرة تستقبل بالقتل الجائر بمجرد أن تحط بأرجلها على أرض بلادنا والطيور المحلية لا يسمح لها بالنماء والتكاثر.
لقد كان أجدادنا مع أميتهم أكثر إدراكاً منا لكيفية التعامل الواعي مع حلول مواسم الربيع والنماء، من أجل المحافظة على الطبيعة والعناية بها حتى يكتمل نمو الأعشاب، وتسمق الأشجار، ويسمح للطيور بالتفريخ والتناسل، وللثدييات بالتوالد ورعاية صغارها، فيتكاثر الصيد ويكتمل نموه.. وكان من وسائلهم في ذلك حماية الأراضي الرعوية منذ سقوط المطر الوسمي إلى قرب نهاية فصل الربيع حماية كاملة تؤدي في النهاية إلى الانتفاع بكل خيرات الأرض طوال السنة.
والفكرة في ذلك سهلة جداً وليست مستحيلة أو صعبة التطبيق كما يتصورها المعاصرون الذين ينظرون إلى المسألة من خلال واقعهم الفوضوي الذي يشاهدون فيه أن الحماية لا يمكن تنفيذها في زمن ضعف فيه الالتزام بالأنظمة والقوانين المتعلقة بالصالح العام.
وتتلخص الفكرة في أن كل أهل بلد كانوا يقسمون المنطقة الرعوية الخاصة بهم إلى قسمين، قسم يكون غير محمي يتوسع فيه الناس، والقسم الآخر يكون محمياً يمنع الدخول فيه للرعي أو الصيد أو جني الفقع (الزبيدي) أو الاحتطاب إلا بعض مضي وقت معين تنتهي فيه الحماية، ويستمتع الجميع بكل خيراته، فيأتون إليه وقد اكتمل نمو نباتاته وتكاثر صيده.
وتقسيم المناطق لهذا الغرض سهل جداً، فلو أخذنا منطقة العارض وما حولها مثلاً، التي تكثر فيها الرياض مثل روضة خزام وروضة خريم وروضة نورة وغيرها، فإنه يمكن حماية نصف الروضات وفتح النصف الآخر.
ولو أخذنا جنوب الرياض مثلاً فإنه يمكن تخصيص المنطقة الواقعة يمين طريق الخرج لمسافة بعمق 20 أو ثلاثين كيلاً مثلا وفتح المنطقة المقابلة لها الواقعة يسار الطريق أو العكس ويمكن تطبيق ذلك على كل مناطق المملكة.
إن مثل هذا النظام لا يكلف المجتمع شيئاً لكنه يعود بالنفع العميم، وبوفرة الكلأ والحطب والصيد فهل نعيد النظر في سلوكنا بهذا الخصوص، ونوقف وأد النبات والفقع، وإفناء الصيد، وتشويه الحياة الطبيعية؟.