منذ أن فطن الإنسان لأهمية التدوين.. رسم لنفسه خطوطاً ومسارات التزم بها في تدوينه للأحداث والوقائع والسير.. ولعل التدوين بغرض كتابة سير الأعلام كان دائماً الأكثر جدلاً في محتواه ومقاصده ومدى صدقه والأهداف التي يسعى إليها والغايات المطلوب تحقيقها.. وندر (حتى لا أقول استحال) كتابة سيرة (ما) دون الوقوع تحت تأثير الغاية المطلوبة من الكتابة ذاتها.. فالسير المكتوبة عن الآخرين تعرضت لعمليات تجميل أو تشويه.. وبين التجميل والتشويه ضاعت حقائق وعُتِّم على أحداث وأُهْمِلت وقائع وسُفِّهت آراء وبُرِّرت تصرفات وشُكِّك في نوايا ولُوِيَت أعناق حقائق.

تفوق المؤرّخون العرب في كتابة السير والتراجم.. حيث تم إخضاع هذا الفرع من التأريخ للجرح والتعديل.. من منطلق أنه يمس العقيدة من خلال كتابة السيرة النبوية.. وهذا أفاد فن كتابة السير والتراجم بأن سنّ له طرق العرض وأساليب البحث ونُظُم العمل وضبط المدونات وتوثيق الأسانيد.. ووصل من تأثير الاهتمام بهذا الفن أن أثَّر على بقية فنون التاريخ وأشكاله.. ومما يحسب للعرب على المستوى الإنساني تطويرهم أو قل تأسيسهم لعلم التأريخ الاجتماعي.. حيث برعوا في وصف الزمان والمكان بتفاصيل وسياقات لم يسبقهم فيها أحد.

كما لم يقع كُتّاب السير العرب فيما وقع فيه الإغريق والرومان.. فلم تكن غاية كتابة السير لديهم خلق صورة الرجل العظيم الخارق الأسطورة المعجزة.. فهذا يتناقض مع الفكر الديني الذي حكم تدوين السيرة النبوية وبالتالي حَكَم كُتّاب السير والتراجم العامة.

هناك من فلاسفة التاريخ من يرى أن التاريخ ليس إلا تدوين سير العظماء.. ومنهم من يرى أن كتابة السير إحدى سمات التفكير البدائي.. ومن بين كل المشاعر الإنسانية التي مصدرها إما سياسي أو مذهبي أو عنصري من المسببات التي تدفع إلى طمس النتائج وتجييرها إلى غير مسبباتها.. ظهر خلل عميق في كتابة سير الأعلام وهو اختفاء الفوارق بين التجميل والتوقير أو بين التشويه والبهتان أو بين السلبية والحيادية.

أرى أن تدوين السير والتراجم هو العمود الفقري للكتابة التاريخية المعاصرة.. لكنه اختلف اليوم شكلاً ومضموناً وصياغةً وموضوعاً.. فقد صار بطل السيرة ظاهرة اجتماعية لا بطلاً خارقاً.. وبالتالي فقد تم كتابة سيرته على شكل قصصي إبداعي جذاب.. هذا الأسلوب نقل كتابة السير من التقريرية المباشرة المعتادة إلى أجواء الإبداع السردي الجميل.

وللحديث بقية.