أثناء العمليات العسكرية الدائرة في غزة، والتي أطلق عليها اسم (الرصاص المنصهر) (وهو اسم مستوحى من أغنية تغنى في عيد الأنوار - حانوكا - عن لعبة صغيرة تستخدم في ذلك العيد، وهي مصنوعة من الرصاص المنصهر)، تذكرنا نحن الإسرائيليين حقيقة أساسية: أن غزة ليست فيتنام أو العراق أو أفغانستان أو حتى لبنان. بل إنها منطقة تتألف من أرض مشتركة نتقاسمها مع الفلسطينيين. إنها الأرض التي نسميها إسرائيل ويسمونها فلسطين. يعيش في غزة مليون ونصف المليون نسمة من البشر، وهم يشكلون جزءاً من شعب يعيش 1.3 مليون آخرون من أفراده في إسرائيل، ومليونان آخران في الضفة الغربية. إن رجال ونساء غزة هم جيراننا، ولقد عاشوا معنا جنباً إلى جنب لمدة طويلة، رغم الحدود التي تفصل بيننا.
إذ لا يفصل بين ديارنا ومدننا غير بضعة كيلومترات، وتنمو حقولنا إلى جانب حقولهم. والحقيقة أن رجال غزة، الناشطين منهم أو رجال الشرطة التابعين لحماس، والذين ننظر إليهم من خلال مناظيرنا العسكرية، كانوا في الماضي من الناشطين ورجال الشرطة التابعين لمنظمة فتح.
لقد ولدوا في غزة أو دُفِعوا إلى هناك كلاجئين أثناء حرب 1948، أو أثناء حروب أخرى. وعلى مدار السنين كانوا البنائين الذين شيدوا ديارنا، وغسلوا الصحون في المطاعم حيث كنا نتناول طعامنا، وكانوا التجار الذين تعودنا على شراء السلع منهم، والعمال في الصوب الزراعية في الكيبوتسات.
إنهم جيراننا، ولسوف يظلون جيراننا في المستقبل. لذا فحين نقرر أن نشن حرباً ضدهم فلابد وأن نفكر بقدر عظيم من الحرص في طبيعة هذه الحرب، ومدتها، ومدى عنفها وتأثيره. فنحن الإسرائيليون لا نملك القوة لاستئصال حركة حماس من قطاع غزة، تماماً كما لم تكن لدينا القوة للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها المتحدث باسم الطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني، أو إخراج حزب الله من لبنان في حرب 2006.
لقد قطع أرييل شارون ومناحم بيغن كل الطرق إلى بيروت في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، فتكبدنا ثمناً دموياً رهيباً في محاولة القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية - وهي النتيجة التي لم يكن من الممكن تحقيقها بأي حال من الأحوال. ثم ماذا حدث؟ انتهى الحال بكل من شارون وبنيامين نتنياهو إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع ياسر عرفات وممثليه لمحاولة التوصل إلى اتفاق. والآن أصبح أبو مازن، نائب عرفات سابقاً، ضيفاً يستقبل بالترحاب في بلدنا.
يتعين علينا نحن الإسرائيليين أن نبدأ في إدراك هذه الحقيقة البسيطة: العرب ليسوا كائنات ميتافيزيقية، ولكنهم بشر، والبشر مفطورون على التغيير. بل ونحن الإسرائيليين نغير مواقفنا، ونخفف من آرائنا، وننفتح على الأفكار الجديدة. لذا فمن الأجدر بنا أن نخرج من رؤوسنا بأسرع وقت ممكن وهم قدرتنا على القضاء على حماس أو استئصالها من قطاع غزة.
بل يتعين علينا أن نعمل بقدر كبير من الحذر والحس السليم من أجل التوصل إلى اتفاق معقول وكامل التفاصيل لوقف دائم لإطلاق النار، وهو الاتفاق الذي يحمل في طياته الاعتراف بقدرة حماس على التغير. إن مثل هذا التغيير ممكن، ونستطيع أن نعمل على تيسيره. والتاريخ لا يخلو من حالات عديدة شهدت مثل هذا التغير الجوهري في القلب والعقل. لا شك أننا حتى لو شرعنا بداية من اليوم في العمل على التوصل إلى مثل هذه الهدنة الدائمة، فلسوف نشهد أيام حرب أخرى لا محالة. والصواريخ سوف تعود إلى السقوط علينا مرة أخرى. ولكننا سوف ندرك على الأقل أننا لا نحارب سعياً إلى تحقيق هدف مستحيل لا يمكن إلا أن يسفر عن الدماء والخراب وهذه الدماء وهذا الخراب سوف يثقلان كاهل الذاكرة الجمعية لأبناء وأحفاد جيراننا، فيظلون على عداوتهم لنا، ولن يفيدنا شيء حتى لو ظللنا نصب على رؤوسهم الرصاص المنصهر.
أ. ب. يهوشوا واحد من الروائيين البارزين في إسرائيل. وآخر مؤلفاته رواية بعنوان (نيران صديقة).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009
www.project-syndicate.org
خاص بـ (الجزيرة)