* لم يبق لنا كعرب إن كان فينا عرق واحد ينبض بالحياء أو كان منا من يعرف قيمة الحياة أمام جبروت الموت إلا أن نلثم شلالات الدم الفلسطيني المراق على أرض غزة، لأن هذا الدم الطاهر بصموده ثمانية عشر يوماً استطاع أن يخرج الشعب العربي من غيبوبة الوعي الوطني والإنساني لما يقارب عقدين من الزمان التي أدخلته في نفقها المظلم رسمياً مشروعات التسوية منذ العام 1993م وإن كان التمهيد لتلك الغيبوبة قد بدأ قبل ذلك التاريخ من منتصف السبعينات الميلادية.
فتلك القوى الاجتماعية وخصوصاً الفئات الشابة على امتداد العالم العربي التي نفضت يدها من القضية الفلسطينية كقضية حق عادلة وتركتها لمساومات التسويات السياسية، أو تلك التي فتحت عيونها على نهج التنصل من القضية واللامبالاة بها باعتبارها مجرد شأن فلسطيني معقد، وجدت نفسها وجهاً لوجه مع الطبيعة النازية العارية لكيان الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. وبهذا فلن يعود من السهل كما كان الأمر قبل الحرب على غزة (من بداية الأسبوع الأخير للعام 2008م) إخضاع الشباب العربي الذي شهد بعينيه وحشية الاحتلال وعاش لحظة بلحظة القتل العمد للأطفال الرضع والحوامل وقصف المدارس ودفن الأحياء تحت الانقاض بالجرافات الإسرائيلة, إلى أفيون مقولات الاعتدال غير العادل والذي لا يعني أكثر من التسليم بسياسات التذلل أمام الأقوى دون محاولة تغيير المعادلة إن لم يكن قبولها كأمر واقع وكأن ليس هناك مفر من قدر الاستسلام إلى قدر المقاومة.
* لم يبق لنا إن كان لا يزال للغة شرف كتابة كلمة حق إلا أن ننثني على تلك الجراح التي فتحتها الأسلحة الفسفورية الإسرائيلية- الأمريكية المحرمة في لحوم أطفال غزة. لأننا ندين لتلك الجروح ولعيون الأطفال المفقوءة وأطرافهم المقطوعة وحدها بإعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية في الضمير العالمي كقضية صراع بين قوى الحق وقوى الاغتصاب بعد أن كانت الصهيونية قد نجحت لما يزيد على نصف قرن في اختزالها إلى مجرد عقدة ذنب تكفر الشعوب الغربية فيها عن نفسها بمناصرة إسرائيل. فأي ثمن باهظ دفعه أهالي غزة من تمزق أرواحهم ليرى العالم عودة النازية اليوم بأبشع أشكالها الفاشية على يد من أدعوا طويلاً أنهم ضحايا النازية!
* لم يبق لنا وقد انتزعت غزة بأكثر من 900 شهيد وأكثر من أربع آلاف جريح وقدمت ما يفوق العد من الصامدين في قسوة الشتاء والعراء والتشريد والتجويع والتعطيش والإرهاب المنظم بآلياته التكنولوجية الوحشية وجيشه المسعور بصدور عارية وأيدي عزلاء إلا من عزة النفس والاستعداد للتضحية بها غير - على الأقل - أن نتخذ مواقفاً لا تخذل تضحياتهم ولا تغرقنا في مزيد من وحل الخجل أمام بطولاتهم.
* فماذا عسانا فاعلون بهذا الزخم العالمي والعربي الذي ولدته مقاومة أهل غزة للحرب النازية التي لم يتوقف الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي عن صب نارها وحديدها على رؤوسهم الحاسرة طيلة ثلاثة أسابيع واصلت فيها عمليات ذبح الأبرياء الليل بالنهار والشروق بالغروب, فيما تواصلت وارتفعت معدلات الاحتجاج الشعبي العالمي على استمرار العدوان الإسرائيلي عليهم، إذ لم تبق شوارع في البلدان الواقعة على الخارطة العالمية من أمريكا اللاتينية وأمريكا الشمالية والدول الإسكندنافية وأوربا الغربية والشرقية وآسيا وأفريقيا وأستراليا إلا واندلعت فيها المظاهرات، والمطالبة القانونية بمعاقبة مجرمي الحرب من الإسرائيليين.
* هل يمكن أن ندع هذه الانتفاضة الإنسانية الواسعة النادرة تمضي دون أي استثمار سياسي لها في اتخاذ موقف عربي يكون في مستوى الحدث على مستوى الالتزام الأخلاقي بالقيمة الإنسانية والمعنوية لصمود أهل غزة من ناحية ولموقف الشعوب العالمي المؤازر لحقهم في وقف العدوان عليهم من ناحية أخرى؟!
* لا شك أن الموقف الشعبي على مستوى عالمي وعلى مستوى عربي من حرب إسرائيل الإبادية على غزة يشير إلى وجود فجوة مريعة بين مواقف الشعوب والمنظمات الأهلية والحقوقية ومؤسسات المجتمع المدني وبين الحكومات، إلا أن تلك الفجوة إذا كنا نكتفي فيها على مستوى الموقف العالمي (بين الشعوب وبين الحكومات) بطرح السؤال وإن كانت تستدعي التحليل في وقفة غير هذه, إلا إن وجود مثل هذه الفجوة داخل العالم العربي نفسه لا يمكن قبولها ولا غض الطرف عنها لا سياسياً ولا أخلاقياً.
* فهل المؤسسة الرسمية العربية تدرك خطورة وجود مثل هذا التباين بين الموقف الرسمي والموقف الشعبي العام؟
* سؤال أتركه فاغر الفاه لريثما تعقد القمة العربية الموعودة إن لم يجر تأجيلها لريثما تنجز الحرب أهدافها. وإن كنت أبشر منا الليبرالين والمعتدلين و(المتأمريكين) و(المحافظين الجدد والقدامى) وأطرافهم المتطرفة يميناً ويساراً أنه ليس دقيقاً كما يذهبون في تحليلاتهم أو تهويماتهم أن من أهدافها القضاء على حماس ليس إلا، وبناء عليه عليهم أن يتحفونا بتحليل لم تنتهِ صلاحيته في حرب إسرائيل على لبنان عام 2006م.
* على كل وقبل أن أختم المقال أعود لسؤال القمة الفاغر الفاه وإن كان من المضحك المبكي أنني تصديقاً للتصريحات مع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة قمت بنشر مقال يوم 31- 12 كتبت فيه عدة مطالب إلى القمة التي تعقد أمرها ولم تعقد. ولذا فإنني من باب المشي إلى الباب أُذكر ببعضها وإن باختصار مخل: إيقاف الفرص الاستثمارية المفتوحة على مصراعيها، وقف العلاقات الدبلوماسية مع كيان العدو, تجميد العرض القائم بالمبادرة العربية للسلام، التزنر والتلويح بموقف الشعب العربي الغاضب. العمل على رفع كل أشكال الحصار عن سكان غزة، الوقف الفوري لحرب الإفناء النازية التي تشنها إسرائيل على غزة، لابد من وقف العدوان وقف العدوان وقف العدوان.
* وأخيراً ملاحظة عابرة: كان علي لأكتب هذا المقال أن أغمس يدي في ثلوج الأرض قاطبة بل أقطعها وأرميها بعيداً عني في قارة (الارتريكا) ليطاوعني جهاز الكمبيوتر على كتابة لا تشتعل بمحرقة غزة ولا تقطر بدماء مئات الأطفال وتفور بدموع حرقة الأمهات. فواخجلتنا من عيون الأطفال وأسئلتهم الجريئة عن كل هذه البرودة وكل هذا الظلام.
Fowziyah@maktoob.com