لم تكن تتحدث بأسلوب الشكوى المعتاد، وإنما كانت تبعث بشواظ من الكلمات الباكية الحزينة، الكلمات التي كنت أشعر بها من خلال سماعة الهاتف كاللهب يحرق القلب، ويُلهبُ الإحساس.
أمٌّ مفجوعة بولدها الوحيد، بفلذة كبدها الذي أشعلت له سنوات عمرها شموعاً من العطف والحنان والتربية والرعاية والبذل المتواصل؛ حتى تجاوز مراحل التعليم كلها، وحمل شهادة عالية، وأصبح اسماً مرموقاً في مجاله، أمٌّ مفجوعة بهذا الابن الذي تزوَّج بزوجة لم تكن أمُّه راضية عنها، ونصحته بعدم الارتباط بها؛ لما هي عليه من الغرور والكبر والحرص على مصلحتها الشخصية وعدم التقدير لهذه الأمِّ التي شقيت وتعبت، أمٌّ مفجوعة بفلذة كبدها بعد أن اشتدَّ ساعده، واستقرت حياته، واستغنى بما جاءه من حطام الدنيا؛ فكافأ أمَّه المثابرة بما يكافئ به اللؤماء مَن يحسن إليهم، كافأها بالجحود والعقوق، والهجر، وتقديم الزوجة عليها في كل شيء، وفاجأها - كما تقول الأم - بالانتقال إلى بيت جديد لم تكن عالمةً ببنائه، وبتركها في البيت القديم دون اعتذار من أمومتها، وشيخوختها، بل أقسمت بالله أنه حينما عزم على الانتقال لم يزد على بضع دقائق جلس فيها إلى أمِّه يخبرها بأنَّه قد بنى بيتاً جديداً سينتقل إليه مع زوجته، ولم يزد على أن قال لأمه لما رآها تبكي: اتركينا من هذه الدموع، وأنا ما قصرت معك في شيء، عندك الخادمة، والسائق، فلتحمدي ربَّك على هذه النعمة.
سألتها: وماذا تريدين مني؟ هل تريدين أنْ أتحدَّث مع ابنك وأنْ أنصحه لعلَّ الله يلين قلبه؟ قالت: لا يا ولدي.. أنا اتصلت بك لأنقل إليك صورةً حزينةً من صور بني آدم الذين يعانون في هذه الحياة لعلَّك تعبر عنها للموعظة والعبرة والذكرى. أنا يا بني امرأة عصامية، أوقفت قدراتي وطاقاتي وجهودي على تربية هذا الولد الذي ذهب وتركني، تعلمت من أجله حتى نلت الشهادة الثانوية، وكنت أواصل سهر الليل بتعب النهار لتوفير كل ما يحتاج إليه طالب العلم من الأدوات والأجهزة والوسائل المختلفة. انقل إلى الناس هذه الصورة، وخاطب ابني ومن شابهه من العاقين لآبائهم وأمهاتهم بما توعَّد الله به أهل العقوق من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، ذكرهم بأن للعقوق عقاباً مؤجلاً في الآخرة، وعقاباً معجلاً في الدنيا، وقد رأيت أنا بداية عقاب الدنيا لابني، وهذا ما زادني حزناً على حزني؛ فأنا - والله - أدعو له ولا أدعو عليه، ولكنَّ عقاب الدنيا بدأ في حياته بخلاف حادّ بينه وبين زوجته سمعت به من بعض الأقارب، وأخبروني بأنهما قد انفصلا، وأنها قالت له: أنت رجل عاق لأمك؛ فلست أهلاً للثقة. أنا لا أريد شيئاً؛ فأنا بخير وعافية من الله، وإنما أتمنى أن ينجو ابني من عذاب الله، وأن يتعظ أهل العقوق بما يرون ويسمعون من الحياة البائسة التي يعيشها أمثالهم؛ لعلها توقظ ضمائرهم.
انتهت المكالمة وأنا فيما يشبه حالة الذُّهول، ولم أتأكد أن تلك الأم لا تريد مساعدةً معيَّنةً إلا بعد أنْ دعت لي دعاءً ممزوجاً بالبكاء، واستأذنت في إنهاء مكالمتها الحزينة.
أقول: أيُّ قلوب قُدَّت من الصخر قلوب هؤلاء العاقّين لآبائهم وأمهاتهم؟! اللهم اهد ضالَّ المسلمين.
إشارة:
رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة.