السلبية العجيبة التي يتبعها الناس في حياتهم اليومية حيال القضايا العامة بل في أحيان كثيرة التقاعس عن الدفاع عن حقوقهم الخاصة أمر ملاحظ في مشاهداتنا المتكررة في الطرقات وعند إشارات المرور وفي المحال التجارية وداخل المصالح الحكومية التي تعاني من اكتظاظ شديد بالمراجعين الذين يريدون إنجاز معاملاتهم بأسرع وقت ممكن حتى لو لزم الأمر الاعتداء السافر على حقوق الآخرين. كنتُ في يوم من الأيام أقف في صف طويل من المراجعين لدى جهة خدمية، وبعد انتظار وتململ من تأخر الاقتراب من شباك الخدمة أتى شخص من الخارج ليتجاوز الجميع ويصبح في الموقع الأول دون أية اعتبارات لحقوق الواقفين في الصف الطويل، انتظرت لبرهة لعل أحد من الذين أمامي يعترض على هذا السلوك المشين الذي يحتقر ويعتدي بشكل صارخ على حقوق الآخرين ولكن دون جدوى مما دفعني للتقدم والحديث مع الشخص المعتدي والإنكار عليه ونهره. لاحقاً تحدثت مع بعض الأشخاص الذين كانوا يقفون أمامي عن سلوكهم السلبي وسكوتهم عن الدفاع عن حقوقهم ذكروا بأنهم لا يأبهون حتى لو كان ذلك احتقار وإهانة لهم مما أثار لدي علامات التعجب والاستغراب، دفعتني تلك الحادثة للتفكير الجاد والعميق لأجل البحث عن مسببات ذلك الوهن والانكسار والعجز عن رفع الصوت عالياً منكراً التصرفات السيئة ومدافعاً عن الحقوق الخاصة والعامة. يتغير المشهد قليلاً عن السيناريو السابق، فهذا رجل يدخل المصعد مشعلاً سيجارته دون أن يأبه بصحة الآخرين وذلك سائق يرمي مركبته في أية مكان بغض النظر عن حقوق أصحاب السيارات الأخرى الذين قد يعيق حركتهم ويدفعهم للانتظار الطويل، لكن الثابت هو تلك السلبية المحيرة والعجز عن الإنكار بشكل حضاري لتلك السلوكيات التي ليست فقط تتكرر بشكل كبير بل وقد يرتكبها نفس الأفراد ضد أشخاص مختلفين طالما أنه لم يتجرأ أحد على ردعهم. هذه المشاهدات اليومية تثير تساؤلات تبحث عن إجابات منطقية ومقنعة، مثل لماذا لا يتجرأ الأشخاص على الاعتداء السافر على الحقوق في البلدان الأخرى؟ هل الأمر يعود إلى التنشئة الاجتماعية؟ وماذا عن دور الأنظمة والقوانين في ردع المخالفين؟
إن الملاحظ في البلدان الغربية هو التزام الناس بالأنظمة والقوانين واحترام حقوق الناس حتى في حال غياب عيون الرقيب وذلك يعود إلى انتشار ثقافة الإنكار والاحتساب لدى العامة التي تردع من قد تسول له نفسه الاعتداء على حقوق الآخرين أو مخالفة الأنظمة، فلا يجرؤ أحد أن يرتكب مخالفات سلوكية مثل التدخين في الأماكن العامة أو إيقاف العربة في الأماكن غير المخصصة ليس فقط لصرامة النظام ولكن لوجود ثقافة الإنكار الجماعية التي لها دور لا يمكن التقليل منه. غياب ثقافة الإنكار الجماعية يعود إلى طبيعة التنشئة الاجتماعية فالأسرة تزرع في الأبناء العديد من القيم والمبادئ مثل إكرام الضيف وإغاثة الملهوف وتقديم المساعدة للمحتاج والالتزام بالقيم الاجتماعية والمبادئ الدينية، فرجال البادية والحاضرة يحضون أبناءهم على معرفة مهارات إشعال النار وتحضير وتقديم القهوة للضيوف والتزام الصمت في حضرة كبار السن كأهم معيار للنضوج والرجولة. أما فيما يتعلق بثقافة رفض السلوك السيئ للآخرين فيُعد ضرباً من التطفل والتدخل في شؤون الأشخاص حتى لو كان دفاع عن الحقوق الخاصة، لذا تنتشر العديد من المقولات والأمثال التي تعمق السلبية مثل (دع الخلق للخالق) و(من تدخل فيما لا يعنيه وجد ما لا يرضيه) و(لست مكلفا بشؤون الناس)، بل وفي أحيان كثيرة يُضاف إلى تلك المقولات التي تكرس التقاعس عن الاحتساب لمسة دينية مثل مقولة (ربنا سوف يحاسبهم). لكن الشيء المؤكد الذي ليس من ضمن القيم التي نزرعها في أولادنا هو ثقافة المطالبة بالحقوق كمعيار للتقدم والرجولة لذا تنتشر وتتكرر السلوكيات والتصرفات السلبية التي تعتدي بشكل فاضح على حقوق الناس دون أن يتجرأ أحد على وضع حد لها.
إن العقبة الحقيقية التي تعيق ثقافة المطالبة بالحقوق هي غياب البيئة التشريعية التي تحث على الاحتساب في القضايا العامة من خلال وجود مؤسسات مستقلة تقدم المشورة وتنشر ثقافة المطالبة بالحقوق على المستوى الفردي والجماعي وتقدم الحماية للناشطين في هذا الصدد. لعل المثال الناصع في هذا الشأن هو اتحاد الحريات المدنية الأمريكي (American Civil Liberty Union, ACLU) والذي يضم في طاقمه كوادر من المحامين والحقوقيين الذين يدافعون عن الحريات السياسية والمدنية والعامة من خلال الترافع نيابة عن الأشخاص الذين يقع في حقهم تجاوزات من قبل المصالح الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص، لكن الوضع في الدول النامية هو النقيض فالمحتسب قد يتعرض للخطر إذا أنكر على بعض المخالفات والتجاوزات في حقوق الأفراد والمجتمع. فإذا كان المواطنون هم صمام الأمان ورجال الأمن كما يكرر ذلك العديد من المسؤولين فلابد أولاً من إشراكهم في صناعة القرار بشكل مباشر وتقديم الحماية والتشجيع لمن يحتسب في القضايا العمومية من خلال صياغة والحرص على تطبيق التشريعات التي تكرس مفهوم الشفافية وتفرض مبادئ المحاسبة على الجميع دون تفرقة. في الوقت الذي تسمح العديد من الأنظمة المحلية لمفهوم الاحتساب في الدفاع عن القضايا العامة، إلا أن البعض الآخر من الأنظمة والتشريعات لا زالت تحتاج إلى تطوير وتعديل حتى تقدم بيئة خصبة تهيئ العموم للدفاع عن المصالح الوطنية العامة وتسمح بتشكيل جمعيات أهلية تجمع الجهود الفردية وتنشر روح التطوع وتبث ثقافة الاحتساب.
إن الثقافة الحقوقية لا يمكن أن تنتشر في المجتمع بالكتب والمطبوعات ولا بالمحاضرات والأسابيع الثقافية، ولكن تصبح هذه الثقافة حجر الزاوية في المجتمع إذا استطعنا تنشئة أبنائنا على ضرورة الدفاع عن حقوقهم من خلال اتباع الطرق النظامية والسلمية التي أثبتت فاعليتها التجارب البشرية السابقة.
أستاذ الاقتصاد المساعد - معهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa