كانت الحياة الدينية، والسياسية، والاجتماعية، في الجزيرة العربية قبل قيام الدولة السعودية الأولى، مضطربة اضطراباً عظيماً، ودخل الفساد وتسرب في كل نواحي الحياة، وانتشر بين الناس الشرك، وغلب عليهم الجهل، وتمثل ذلك بالاستعانة بالصالحين. بل إن كثيراً منهم كان يرى في الأحجار، والأشجار القدرة على النفع، والضر، والتقرب إلى الله وكانت نجد كغيرها من بلدان الجزيرة لها نصيب من ذلك، فقد كان منهم من يقصد القبر المنسوب إلى (زيد بن الخطاب) رضي الله عنه في الجبيلة، يدعونه لتفريج الكرب، وقضاء الحاجات. وكانوا يزعمون أن في الدرعية قبوراً لبعض الصحابة، فعكفوا على عبادتها وتقربوا إليها. وكانوا يزعمون أن في (شعيب غبيرا) قبر (ضرار بن الأزور) فيأتونه ويحدثون عنده من المنكر ما لا يُعهد مثله، وكان الرجال والنساء يأتون بلدة (الفدا) حيث يكثر ذكر النخل المسمى (الفحال) ويفعلون عنده أكبر الأفعال الشركية ويتبركون بها، وقد أشار الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله على أمير العيينة بقطع الأشجار، وهدم القباب التي ذهب الناس إليها للاستغاثة، والدعاء من دون الله، أو يشركونها معه فأذن له الأمير أن يفعل ما يريد وهو من ورائه يحميه ويعينه، وبعث الشيخ سراً إلى الأشجار التي يعظمها الناس من يقطعها، ودفع الأجرة من ماله الخاص، وباشر قطع شجرة (الذيب) بيده، وكذلك هدم القبة التي وضعت على الباطل (وهي القبة المبنية على القبر المنسوب لزيد بن الخطاب رضي الله عنه) فهدمها بيده حتى ساواها، ولما علم أمير الأحساء أمر أمير العيينة بقتل الشيخ محمد بن عبدالوهاب، أو إجلائه، وألزم عليه في ذلك غاية الإلزام، وصرح له: بأنك إن لم تفعل فما لك عندي مستباح، فآثر أمير العيينة السلامة وأمر الشيخ بالخروج من العيينة، فخرج الشيخ متوجهاً إلى الدرعية سنة 1157هـ وأحسن أمير الدرعية الأمير محمد بن سعود استقباله حيث سار إليه برجله في مكانه، وأظهر تعظيمه والاحتفاء به، فسلم عليه ورحب به، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يناصره ويمنعه من عدوه بما يمنع نساءه وأولاده، رغم أن الشيخ جاء إلى الدرعية مخذولاً غير مرغوب فيه من الأمراء وملك الأحساء، صاحب النفوذ، ومن سائر الحكام في وقته، لأن ما يدعو إليه الشيخ محمد بن عبدالوهاب من تجديد الدين ينافي ما هم عليه من سيادة الطاغوت القائمة على البغي والجهل، وقد أحسن الأمير الراشد محمد بن سعود استقباله، ومشي إليه برجله بخلاف ما تقتضيه سياسة الإمارة، لكن الإمام آثر إحياء السنة السلفية، والسياسة الشرعية، في تعظيم العلماء لوجه الله تعالى فأحيا الله قلبه وشرح صدره لدعوة الشيخ، وقال له: (أبشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر بالعز والمنعة).
وقال له الشيخ: (وأنا أبشرك بالعز والتمكين، وهذه كلمة لا إله إلا الله، من تمسك بها، وعمل بها، ونصرها، ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وأنت ترى نجداً وأقطارها، أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم لبعض، فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون، وذريتك من بعدك) فقال له الأمير الراشد: (يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله، الذي لا شك فيه، وأبشر بالنصرة لك، ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد) ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين:
الأولى: نحن إذا قمنا في نصرتك، والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.
الثانية: أن لي على أهل الدرعية قانوناً آخذه في وقت الثمار وأخاف أن تقول: لا تأخذ شيئاً. فقال له الشيخ: أما الأولى: فأبسط يدك، الدم بالدم والهدم بالهدم، وأما الثانية: فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها، وتبايعا على ذلك في قصة تاريخية معروفة. وقام الحكم السعودي على أسس دينية، ولم يقم على عصبية قبلية، أو حمية مرتبطة ببلدة، أو إقليم، ولذا لم يجد الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبدالوهاب مشقة في أن يضما إلى دعوتهما الإصلاحية بعضاً ممن جاورهم من قرى نجد مما كان له أثر في رجحان كفتهم من الناحية العسكرية أمام خصومهم المحليين، ولم يمض وقت طويل حتى بسطت تلك الدعوة المباركة على رقعة كبيرة من نجد، ثم انتشرت في كل اتجاه في جزيرة العرب، وصمدت بتحد بعد ذلك أمام الأخطار الخارجية، وقد دخل معظم جزيرة العرب تحت سلطان الدولة السعودية الأولى في مطلع القرن الثالث عشر، ومن أهم آثار قيام الدولة السعودية الأولى ابتداء من سنة 1157هـ أن الأمن عمّ أرجاء الجزيرة العربية، بعد أن كان مفقوداً، وأمنت البلاد وانتظمت مصالح المسلمين، وشهد بذلك الرحالة الأوروبيون والمستشرقون الذين وفدوا على المنطقة في تلك الفترة، وقد لخص ذلك الرحالة الإنجليزي (لوريمر) في كتابه (دليل الخليج والجزيرة العربية) ص 29-30. حيث قال: (وكان اتجاه حكومة نجد بالنسبة للحكومات قبلها متحضراً جداً إذ كان تطبيق الشرع، وسيادة النظام من بين أهدافها، فضلا عن القضاء على الحروب المحلية، وانتهت الحرية المطلقة التي كان يمارسها الأعراب في تسوية خلافاتهم، واعتداء بعضهم على بعض، إذ كانت مسؤولية القضاء على النهب، والسلب، والجرائم الأخرى ملقاة على عاتق الأمراء الذين تعينهم الدولة، وتحاسبهم على تنفيذ ذلك حساباً عسيراً). وقد سار أئمة الدولة السعودية على وتيرة واحدة، قوامها إجلال العلماء وتقديرهم، في كل أحوالهم في أوقات السلم، أو الحرب، حيث كانوا يصحبون معهم في الحروب علماء، ومرشدين، يبينون للجنود والبلاد التي يدخلونها أحكام الدين، ويتذاكرون مع العلماء، ويناقشونهم في الأمور التي تنفع العباد والبلاد، وبعد الوفاق التاريخي القدري، بين العالم الرباني والأمير الراشد على نصرة التوحيد، اكتمل عقد القوة العلمية والعملية لجماعة المسلمين، وقامت الدولة السعودية الأولى على ذلك، بإمامة الأمير الراشد محمد بن سعود، وجدّ واجتهد في القيام بنصرة التوحيد والقضاء على الشرك والبدع والخرافات، والسير على منهج أهل السنة والجماعة حتى توفاه الله تعالى سنة 1179هـ. وقد تولى الإمامة بعد وفاته ابنه الإمام عبدالعزيز، وكان أشهر من أبيه، فقد استتب له الأمر تسعة وثلاثين عاماً، وأدخل جميع نجد في طاعته، والأحساء والقطيف وعمان والحرمين الشريفين بقيادة ابنه سعود، ووصلت غزواته مشارف الشام، وكربلاء في العراق، واليمن، وكان عالماً عادلاً ورعاً، وشجاعاً مقداماً، قتله رافضيّ من أهل النجف في العراق، جاء متنكراً باسم عثمان، بدسيسة من والي بغداد، قتله غدراً وهو قائم يصلّي العصر بالناس، في مسجد الطريف في الدرعية، سنة 1218هـ، وبويع بالإمامة ابنه سعود، وكان قائداً عظيماً، وعالماً جليلاً، ذكياً، فصيحاً إذا تكلم أنصت له الكل، وفارساً مغواراً وحاكماً عادلاً، لا تأخذه في الله لومة لائم، تولى ملك أهل السنة والجماعة، وجنّد جنوداً تزيد على أربعمائة ألف ما بين فارس وراجل، حتى خضعت له جميع أنحاء الجزيرة العربية، واستتب الأمن في جميع ربوعها، وحاول مناهضة ملوك الدنيا في سبيل إعلاء كلمة الله، وإخضاع ممالكها للسنة والجماعة وبارزته السلطنة العثمانية بالعداء والقتال، وجيّشت الجيوش الكثيرة ضدّه فهزمها هزيمة شنيعة، وكان مدة حياته لم تُهزم له راية، وعليه من الأبهة والهيبة والجلال ما يبهر العقول، وكانت الدولة العثمانية ترقب باهتمام شديد تطور الأحداث في الجزيرة العربية، ورأت أنه يبعد أن تقوم للدولة السعودية قائمة بسبب كثرة خصومها، واتساع رقعتها، ولكن كانت الانتصارات المتتالية التي يحرزها قادة الدولة السعودية تثير القلق لدى قادة الدولة العثمانية، خصوصاً بعد إخضاع الأحساء، وشرق الجزيرة، والوصول إلى كربلاء والنجف وأهم من كل ذلك أنه في صفر سنة 1218هـ دخل سعود بن عبدالعزيز الحجاز أيام أبيه عبدالعزيز بن محمد منتصراً، ظافراً، وأصبح بيده زمام الأمر فيه وألزم الناس في مكة، والحجاز بالأحكام الشرعية، وراجت سوق الحسبة، واجتمع بالعلماء الموجودين في مكة وناقشهم في موضوع القباب فهدمت القباب التي على الأضرحة، واصطدمت الدعوة السلفية بتركة قرون مرت على المسلمين فشا فيها الجهل، وعمت فيها البدع، كالتمسح بقبور الموتى، وطلب الشفاعة منهم والبناء على الأضرحة، والقباب، وأرادت الدولة السعودية أن تغير مألوف الناس مما وجدوا عليه آباءهم من المنكرات العظام خصوصاً في أقدس البقاع، مكة، والمدينة، مما حدا بأعداء الدعوة السلفية أن يستعدوا عليها السلطان العثماني الذي صمم على استعادة الحجاز تحت سلطانه، واستعان بخصوم الدعوة السلفية من العلماء الدائرين في فلكه لتأليب الناس وتحريك عاطفتهم الدينية، وذلك بنشر الأغاليط، والافتراءات على الدعوة السلفية، وبعث محمد علي باشا بمصر إلى الاستانة يخبر السلطان العثماني أن سعوداً ماض في خطته لتوسيع دولته وأنه سيبلغ الشام، إضافة إلى أن انتزاع الحجاز من يد السلطة العثمانية، إهانة كبيرة لها إذ يحرمها من شرف حماية الحرمين الشريفين، ثم إن سعوداً ينطلق في فتوحاته من أسس دينية وربما يؤدي ذلك إلى انتفاض بعض الولايات العثمانية عليها، والتفافها حول الزعيم الجديد. فصحّ عزم الدولة العثمانية، وتصميمها على القضاء على الدولة السعودية برمتها، ولم يكن إخراجهم من الحجاز فقط هو الهدف، وتولى هذه المهمة محمد علي، والي مصر، إذ أرسل ابنه طوسون، ثم إبراهيم الذي حاصر الدرعية نفسها، ودكها بالمدفعية، وعندما توفي الإمام سعود بن محمد خلفه على الحكم ابنه عبدالله فسار سيرة والده وقد صمد الإمام عبدالله بن سعود، ومن معه واستبسلوا، في الدفاع عنها غير أن تفوق عدوهم في العدة، والعدد حمله بعد استشارة العلماء على أن يفدي قومه بنفسه فآثر الاستسلام بشروط سنة 1233هـ، ولم يكتف محمد علي وابناه، طوسون، وإبراهيم برد الحجاز إلى السلطة العثمانية، بل زادوا على ذلك بأن أجهزوا على الدولة السعودية برمتها، وخربوا عاصمتها الدرعية، وعاث إبراهيم في أرضها فساداً، وهدماً وتخريباً، وأسر وجهاءها، وكبراءها، بمن فيهم الإمام عبدالله بن سعود وأنفذه، ومن معه إلى مصر ثم اسطنبول حيث قتل هناك صبراً سنة 1233هـ. ولم يتورع الغزاة عن إظهار المنكرات، وازدراء العلماء، وأهل الحسبة بذلك، ومما حدث أنهم أخذوا الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب وهددوه، وأجروا آلات اللهو أمامه إرغاماً له بها، ثم قتلوه بعد ذلك قال (ابن بشر) في كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد): (وانحل فيها -أي في سنة 1233هـ- نظام الجماعة، والسمع والطاعة، وعُدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر، أو يأمر بطاعة، وعُمل بالمحرمات، والمكروهات، جهراً وجرى الرباب، والغناء في المجالس وعمرت باللهو بعد الأذان للصلاة واندرس معرفة الأصول، وأنواع العبادات، وسُلّ سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في جوف بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد حتى أتاح لها نوراً ساطعاً، وسيفاً لمن أثار الفتن قاطعاً، هو تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود).
فعلى الرغم من تمكن إبراهيم باشا من القضاء على الحركة الإصلاحية، والدولة التي قامت بها عسكرياً، إلا أنه لم يستطع أن يقضي على مبادئها، فظلت حية في نفوس أتباعها، خصوصاً في نجد حتى قامت لها دولة جديدة، هي الدولة السعودية الثانية. وبدأت هذه الدولة بعد رحيل القوات العثمانية عن نجد حيث فر مشاري بن سعود سنة 1234ه من محبسه، وجمع حوله الأنصار وتولى السلطة مدة قصيرة ثم غُدرَ به وسُلم للحامية العثمانية وتوفي بالسجن، وكان تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود متنقلاً في نجد كحال أمراء آل سعود ووجهاء وعلماء نجد، وقد أقبل من بلدة الحلوة، واحتل عرقة، وفي عام 1240ه هجم على الحامية العثمانية في الرياض وبعد قتال طويل بين الإمام تركي وأتباعه وبين الحامية العثمانية ومن يناصرها، طَرَدَ الإمام تركي الحامية المصرية نهائياً من الرياض سنة 1240ه واتخذها عاصمة لدولته التي لمّ بأحيائها من جديد الشتات، ورجع بالناس إلى الوحدة وتمكن من إرغام القوات التي بعثها والي مصر لمحاربته على مغادرة نجد سنة 1240ه واتخذ من الرياض عاصمة لدولته الجديدة، ولم تمض سنتان إلا وقد دخل أمراء بلدان نجد، وغيرها تحت لواء الدولة السعودية الجديدة، وذلك لأن الناس عرفوا طعم الوحدة بعد الفرقة، والأمن بعد الخوف، في الدولة السعودية الأولى، ولذا انتظموا في سلك طاعة الإمام تركي بن عبدالله مختارين، بعد أن خضعت نجد له فأقبلوا إليه وانضووا تحت لوائه، وضمت الدولة الجديدة نجداً والأحساء. وفي آخر يوم من أيام سنة 1249ه، استشهد الإمام تركي بن عبدالله، وتولى الأمر من بعده ابنه فيصل فسار على نهج أبيه، في الحكم والاهتمام بالدعوة السلفية وحاولت الدولة العثمانية إثارة الفتنة بينه وبين خالد بن سعود إلا أن خالداً خرج من الرياض إلى الدمام ثم الكويت فالقصيم، ومن ثم إلى مكة حيث مات فيها، واستتب الحكم للإمام فيصل وكان ذا أخلاق شريفة، ومكارم حميدة عادلاً في رعيته حليماً محباً للعلم وطلابه، موقراً للعلماء كثير الخوف من الله أحبته الرعية لعفته ودينه وشجاعته وعدله وإنصافه وعاشت الدولة بلا خوف ولا فتن إلى أن توفاه الله عام 1282ه وهو جد الملك عبدالعزيز رحمهما الله وبعد وفاة الإمام فيصل بايع الناس ابنه عبدالله إذ هو الابن الأكبر للإمام فصل ولم يمض عام حتى حصل خلاف بينه وبين أخيه سعود وقد بذل العلماء بإيعاز من الإمام عبدالله جهودهم للإصلاح بينهما إلا أنهما باءت بالفشل فاستغل أعداء الدعوة السلفية هذا النزاع وانقسم الناس، وتدخلت الدولة العثمانية لغير مصلحة الطرفين فاحتلوا الأحساء وجاء (مدحت باشا) إلى الأحساء عام 1289ه وهمّ بالقبض على الإمام عبدالله ومن معه من العلماء لتسفيرهم إلى الخارج إلا أنهم هربوا إلى الرياض بحيلة، وتكالب الأعداء على الدولة السعودية المناصرة للدعوة السلفية، واستغل ابن رشيد الوضع فاستولى على الرياض في نهاية الأمر تحت مساعدة وسيادة الأتراك وانتهت بذلك الدولة السعودية الثانية، ولما أراد الله لهذه الأمة أن تنضوي تحت لواء التوحيد مرة أخرى هيأ لذلك رجلاً اسمه عبدالعزيز، وبدأت الملحمة سنة 1319ه حيث دخل الرياض ظافراً، منتصراً، ولم يلبث إلا قليلاً حتى انضمت إليه الخرج، والأفلاج، والحوطة، والحريق، والدواسر، وبعد نحو سنتين ألحق بذلك الوشم، وسدير وفي سنة 1326ه تم انضمام القصيم، وأخرج الترك من الأحساء، وانضمت إلى الدولة الجديدة سنة 1331ه، ولما رأى العلماء، والوجهاء هذه الانتصارات، واتساع رقعة الدولة اجتمعوا في الرياض سنة 1329ه وأعلنوا عبدالعزيز (سلطاناً) على نجد كلها بعد أن تم جلاء الترك وانكسار المتغلبين، وفي سنة 1342ه أخضع عسير وبعدها بعامين أي سنة 1344ه بايع أهل الحجاز له بالملك وأصبح لقبه، (ملك الحجاز وسلطان نجد) ثم لقب سنة 1346ه (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها) وفي 17 جمادى الأولى سنة 1351ه صدر أمر بتسمية الدولة الجديدة باسم (المملكة العربية السعودية). وبعد التحرير، والتوحيد، أصبحت دولة قوية، متمدنة، بدأ فيها التوسع في إنشاء المدارس، وإنشاء الهجر لتحضير البادية، والأخذ بأسباب المدنية الحديثة مع الحفاظ على ما بدأت عليه الدولة من التمسك بأهداب الدين، عقيدة، ومنهجاً، وسلوكاً وبُنيتْ إدارات الدولة، ومؤسساتها على ذلك الأساس المتين، ولم تنكفئ المملكة على نفسها بل كان في حنكة ورجاحة عقل الملك عبدالعزيز ما جعله يفتح الأبواب على النافع من حضارة العصر، والاستعانة بالعقول النيرة من الشرق، والغرب، ولم تلبث إلا قليلاً حتى أصبحت دولة عصرية، تتقدم يوماً بعد يوم في كل جانب ولما رأى علماء الأمة بوادر منازعة الملك عبدالعزيز ظاهرة من بعض المتحمسين للدين من غير فقه الذين يطلق عليهم -الأخوان- بسبب ما رأوه من خطأ التعامل مع الدول غير المسلمة والاستعانة بالمخترعات الحديثة والتي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية اجتمع علماء المملكة ومنهم الشيخ محمد بن عبداللطيف، والشيخ سعد بن حمد بن عتيق، والشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العنقري، والشيخ عمر بن سليم وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ووجهوا نصيحة للناس بينوا فيها وجوب السمع والطاعة في غير معصية الله وساقوا الأدلة ثم أصدروا بياناً جاء فيه: (إذا تقرر ذلك فليُعلَمْ أن الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل قد ثبتت بيعته وإمامته، ووجبت طاعته على رعيته فيما أوجب الله من الحقوق فمن ذلك: أمر الجهاد، ومحاربة الكفار ومصالحتهم وعقد الذمة معهم، فإن هذه الأمور من حقوق الولاية وليس لآحاد الرعية الافتيات أو الاعتراض عليه في ذلك فإن مبنى هذه الأمور على النظر في مصالح المسلمين العامة والخاصة، وهذا الاجتهاد والنظر موكول إلى ولي الأمر) وتم وأد هذه الفتنة في مهدها ومنذ الأيام الأولى لتولي الملك عبدالعزيز مقاليد الأمور في الرياض كان العلماء يحظون بالمكانة الرفيعة لدى الملك حيث كان يُكبرهم ويجلّهم ويبالغ في إكرامهم ويقدمهم على إخوانه وأبنائه وكبار جلسائه ويصغي إليهم ويأخذ بآرائهم، ويلجأ إليهم في الأمور الدينية والتشريعية التي تحتاج إلى توضيح وتفسير، وكانت مجالسه مجالس علم، له جلسة علم معهم بعد صلاة العشاء في القرآن وتفسيره، وجلسة كل يوم خميس من كل أسبوع، كما كان يلتقي في موسم الحج ببعض علماء البلدان الإسلامية ويناقش معهم القضايا التي تهم الأمة الإسلامية، ومن أولئك الشيخ عبدالمجيد سليم شيخ الأزهر سابقاً والشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محمود شكري الألوسي، من العراق والشيخ محمد الفقي من مصر، والشيخ بهجة البيطار من الشام، وشكيب أرسلان من لبنان، وغيرهم، كما بث الدعاة والمرشدين إلى العالم الإسلامي. وكان يحترم العلماء كثيراً ويوقرهم، ويشعر بهيبة بعضهم حيث قال الملك عبدالعزيز -رحمه الله-: (ما لقيت الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، إلا تصبب العرق من إبطي) ومما يؤكد احترام الملك عبدالعزيز للعلم والعلماء وعنايته وطباعته كتب السلف خدمة للدعوة السلفية ونشرها في العالم الإسلامي، ككتاب (المغني والشرح الكبير)، و(روضة الناظر) لابن قدامة، وكتاب (مناقب الإمام أحمد) وغيرها من الكتب التي تتجاوز الخمسين مؤلفاً يتجاوز معظمها اثني عشر مجلداً للكتاب الواحد، ولكي يؤكد الاتجاه السلفي في التعليم الحديث أمر بإنشاء (دار التوحيد) في الطائف سنة 1364ه ويذكر أن الملك عبدالعزيز رحمه الله زار هذه المدرسة وحينما قابل تلاميذها كان من بينهم تلميذ حاول أن يداري بيده بقعة من الحبر وقعت على ثوبه، ولاحظ الملك عبدالعزيز حرجه، فابتسم له قائلاً: (لا تخفها هذا عطر المتعلمين). ومن توفيق الله تعالى أن شملت وحدة المملكة العربية السعودية ما يزيد على أربعة أخماس شبه الجزيرة العربية، من مناطق متباعدة، وقبائل متفرقة، وشعوب مختلفة، وأجناس متعددة، فتمثلت في وحدة المملكة العربية السعودية، تركيبة العالم الإسلامي كله، مع ارتكازها على الأصول الأربعة الكتاب والسنة والإجماع وأقوال الصحابة، رغم أن العرب والأعراب كما يقول ابن قدامة في مقدمته (ص151): (أصعب الأمم انقياداً، بعضهم لبعض، للغلظة فيهم والأنفة، وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، ولا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة، فإذا كان الدين، بالنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلق الكِبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين، المُذهب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، يذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تم اجتماعهم، وحصل لهم الملك والتغلب) وعندما سئل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- عن دستور بلاده؟ أجاب السائل بقوله: (دستورنا القرآن، وما لم يكن فيه فمن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وما لم يكن فيهما فمن قضاء أصحابه -رضي الله عنهم- وسيرتهم، وما لم يكن فيه فمن نهج أهل العدل والعقل والسيرة الحسنة من سلف الأمة الصالح وما لم يكن ففي النظم التي يقررها أهل الاختصاص بما يوافق الدين الإسلامي الحنيف) فعلى هذا الأساس المتين قامت المملكة العربية السعودية بعد توحيدها على يد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، فتحقق له بفضل الله -عز وجل- العزة والتمكين في الأرض، والقوة والنصر والغلبة على أعدائه، ومما ورد في خطبة ألقاها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في مكة المكرمة بتاريخ 19 صفر 1356ه قوله: (أن الحياة المجردة عن الدين والزاخرة بأنواع القوة ليست حياة وإنما الحياة في الدين والتمسك به وإقامة حدود الله، فالحياة التي تسير على أساس الدين الحنيف هي القوة. إن الدين الإسلامي في نظري هو أساس الرقي)، وأضاف -رحمه الله-: (وإن الإسلام ملك علينا قلوبنا وكل جوارحنا ونسأل الله أن يميتنا على الإسلام وأن يحفظنا بالإسلام ويحفظ بنا وبالمسلمين الإسلام) وقال -طيب الله ثراه-: (إن الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله هو القوة فلا تنفع قوة بلا دين فنحن كما ندعو للتمسك بالدين ندعو للأخذ بأسباب القوة لا لإلحاق الضرر بالغير وإنما للدفاع عن ديننا وبلادنا وشعبنا..) وقال -رحمه الله- في خطبة مبيناً حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- التي يُسبُّ بها من قبل خصومه فقال: (ومن اتخذ الدين نبراساً له أعانه الله ومن تركه خلف ظهره خذله الله. إنني رجل سلفي وعقيدتي السلفية التي أمشي بمقتضاها على الكتاب والسنة..) وقال -رحمه الله- في خطبة أخرى (إننا لم نطع ابن عبدالوهاب ولا غيره إلا بما أيدوه بقول من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. ويقولون إننا وهّابية والحقيقة أننا سلفيون محافظون على ديننا، ونتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس بيننا وبين المسلمين إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم). ومن مواقف الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- الدالة على فهمه لتعاليم الدين الحنيف، أنه عندما جاء مبعوث البابا في زيارة للمملكة وقال للملك عبدالعزيز: نريد أن نبني كنيسة في الظهران مقابل أن نعترف بحقوقكم في فلسطين، وأن نساعدكم مادياً ومعنوياً، فغضب الملك عبدالعزيز غضباً شديداً وتغير حاله من شدة الغضب، ثم قال له: (أما حقوقنا فلسنا بحاجة لاعترافه فيها فنحن في غنى عنه، وأما دعمنا مالياً ومعنوياً فالله لنا، وأما الكنيسة فلا أسمح أنا ومن في صُلبي بأن توضع كنيسة في جزيرة العرب)، وكان الذي يقوم بالترجمة بين البابا والملك عبدالعزيز هو عبدالعزيز بن معمر، حيث كان يتقن الإنجليزية). وقد سار ملوك الدولة السعودية من أبناء الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- على نهج الموحد واتخذوا توجيهاته نبراساً لهم تعينهم بعد الله عز وجل على القيام بالواجب نحو الدين الإسلامي الحنيف وأداء الأمانة التي تشرفوا بحملها تجاه الإسلام والأمة الإسلامية منطلقين من ثوابت راسخة لنصرة الإسلام ونشره في أنحاء المعمورة ومناصرة قضايا الإسلام والمسلمين في كل زمان ومكان مصداقاً لقوله تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(41)سورة الحج. إلا أنني قبل أن أختم هذه المقالة أتساءل كما يتساءل غيري عن سبب تغييب سير سلف هذه الأمة وأئمتها عن شبابنا وفتياتنا وعن مناهجهم المدرسية وكذلك عن عامة المجتمع فلو قُدّر لك أن تسأل أي مواطن في هذه البلاد عما يعرفه عن الإمام تركي بن عبدالله، أو الشيخ عمر بن سليم، أو الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، أو الشيخ محمد بن إبراهيم، أو الإمام عبدالله بن سعود لما استطاع أن يجيبك إلا بترديد الاسم فقط دون إجابة بينما يتباهى بعض شبابنا ومثقفينا بترديد أسماء أئمة الضلال الليبرالي ويتحدثون عن أفكارهم المريضة ويرون ذلك علامة للثقافة والرقي، ولعل المسؤولية في عدم نشر سير أعلام السلف الصالح تقع على وزارة التربية والتعليم وعلى وزارة التعليم العالي وكذلك على دارة الملك عبدالعزيز، التي تعتبر المسؤولة الأولى عن التعريف بهؤلاء الأئمة على نطاق عام.
dr-a-shagha@hotmail.com