حتى ولو كانت أكثر عاطفة من الرجل قد تتميز المرأة بالحكمة في بعض المواقف. وقد ضن التاريخ علينا، وهو يسوق جوانب من مواقف المرأة في (الرأي والمشورة)، إما لقلتهن، أو لكون التاريخ وتدوينه قد استبد به الرجال، بوصفهم أكثر معايشة لأحداثه العظام، ومواقفه الجسام.
* مع هذا التغافل، أو التجاهل نلحظ أن (القرآن الكريم) بشموليته يعرض علينا - ومن خلال قصص الأنبياء - طرفا من حكمة المرأة ولباقتها وحصافة رأيها حين شعرت بتهديد كيانها، وتقويض أمن بلدها.
* بلقيس ملكة (سبأ) واحدة من أولئك النسوة، كانت قائدة في مجتمعها، ورائدة في رأيها، نزاعة للحق أنى كان، ومهما كانت ضريبته. تناول الدكتور عبدالعزيز العمري في مؤلفه (الأمن في حياة الأنبياء) طرفا من سيرتها السياسية، كأي حاكم ينشد الأمن، والاستقرار، والطمأنينة، والرخاء لمواطنيه. سيرة عميقة وكفيلة في الوقت نفسه أن تعطي قادة العالم وزعمائه دروسا، وهم يتعاملون مع الأحداث المعاصرة، جليلها وصغيرها.
* امرأة تعلمت من الحياة وقوة الإلهام أن الإنسان يتحرك بحجم القوة المادية والمعنوية التي يمتلكها. امرأة تعلمت من قصص التاريخ أن المملكة لا تقوض، والأمجاد لا تهدم إلا حين يسيء الإنسان أولا يحسن تقدير العوامل والمواقف المحيطة به.
* لم تكن (بلقيس) لتستبد برأيها، وقد شعرت بتهديد بلادها من الخارج، وعلى يد ( سليمان) عليه السلام. يصور ذلك القرآن الكريم أعظم تصوير، وأبلغ تعبير في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}، ويأتي الجواب بشيء من الاستعلاء، والتعاظم، والاعتزاز: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}.ومع هذا التجاوب السريع والقوي أرادت (بلقيس) أن تخضع الرأي العام للمزيد من الاختبار والامتحان، وذهبت لترمي بساحتهم بعض التنبؤات، لتكتشف مدى التماسك والتلاحم والصمود أمام غيره. ليست القضية في نظرها كما يتوهم بعضهم مجرد استيلاء على كرسي الحكم وحسب، بل هناك من التداعيات، الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية ما لا يمكن حصره أو الإحاطة به. تأملوا ما جاء على لسانها في محكم التنزيل: {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
الحكمة هنا ليست في الرجوع والخضوع والإذعان للحق كما سيتضح، بل في تهيئة الناس للحوادث، وما ينتظرهم من سوء حال ومآل، وكلها مواقف تنم عن استشعار (المرأة) لمسؤوليتها أمام التاريخ، هنا كان ولابد أن تنهج كل المناهج الدبلوماسية، حماية لأتباعها من البطش، والتنكيل، والتهديد الذي ينتظرهم إن هم لم يلتزموا جادة الصواب، ومن باب الملاطفة للملك (سليمان) ما حاولت تقديمه له: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}. وأمام الإصرار والصمود من (الملك) تعلن على الملأ إيمانها بالله والانقياد له {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وهنا جنبت مملكتها ورعيتها ويلات الحروب وتبعاتها، والحكمة ضالة الإنسان أنى وجدها أخذ بها. أ. هـ
dr alawees@hotmail.com