في زمن الخيبة العربية، زمن الاحتضار المر في الأندلس، والهوان في بغداد هولاكو، والتقسيم في (سايكس - بيكو) لا غرابة أن ينادي باستحضار حلقات تفتيت الأمة وسحقها خونة جددٌ، وأدلاء جدد، ومنتفعون بأية صورة كانت جدد!........................
بيد أن المفجع والمؤسي حقاً والذي لا نعلم كيف نستوعبه أو نعيه أن يطعن هذه الأمة في خاصرتها زمرة من أبنائها، ويتنفسون هواءها، ويصطبغون بلونها، ويتحدر في شرايينهم نبض تاريخها بكل ما فيه من أمجاد وهزائم، وأخلاقيات وقيم وأحلام وتطلعات وسقوط وشرف وخفوت وسطوع، وعلو وانكسار!!
إنه العار..!! العار الذي أنسانا دماءنا التي سالت وحفظها ثرى دير ياسين، وصبر وشاتيلا، وبغداد، وبورسعيد، دم بريء جديد يهراق ويتدفق على أرض غزة الصابرة والعالم (الحر) يتفرج، والاخوة الفلسطينيون منشقون، والعرب صامتون إلا من الضجيج والمسيرات والشعارات، وطائفة غير منصورة لا تصمت كما يصمت القرار الرسمي العربي، بل تذهب تلك الطائفة الليبرالية غير المنصور إلى ما هو أبعد من الصمت، فتنادي (إسرائيل) فرحة مستبشرة مرحّبة بمزيد من التدمير والقتل والتشريد تحت ذريعة أن هذه الحرب المتوحشة ستقضي على (حماس) وهي تيار أصولي متطرف لا بد أن يباد لتخضر أرض فلسطين وتزهر، وليذهب الضحايا إلى الجحيم، ولتحرق الأرض، ولتُبد الطائرات والصواريخ الإسرائيلية البشر والحجر والشجر، لأن إسرائيل هي رمز الديمقراطية - عند هؤلاء المتنكرين لأمتهم - ورمز التحضر والمدنية!!
إننا لن نذهب هنا إلى محاكمة (حماس) ما لها وما عليها، وما هي منطلقاتها الفكرية، ومن يدعمها، وعلى من تتكئ، فليس من شأننا أن تنتصر أو تنكسر، إنما واجبنا الأخلاقي والإنساني و(العروبي) والإسلامي الوقوف مع (الإنسان) في غزة الذي يدفع دمه وتشرده وفقره ومستقبله ثمناً للصراعات السياسية ولرهانات فكرية وانتماءات أيدولوجية خارج فضاء غزة وأبعد من حدودها الضيقة.!
يأتي من يسمون أنفسهم (ليبراليون) فيكتبون في منتدياتهم شامتين فرحين، متخلين عن أية مشاعر إنسانية، أو روابط دينية، أو انتماءات قومية، وكأن ولاءهم الفكري لكل ما هو خارج عن الإسلام والعروبة قد هداهم إلى الارتماء الأعمى في أحضان كل كارهٍ وماقتٍ وحاقد على هذه الأمة بما تحمله من قيم وتراث وتاريخ وتقاليد وآمال!!
وقد تجاوزوا بموقفهم الصفيق هذا ليبراليي الغرب والشرق، وتياراته الفكرية والعقدية بمن فيهم اليهود المعتدلون والمسيحيون العقلاء، والبوذيون والسيخ واللادينيون في كل مكان من العالم، حيث تظاهروا أمام السفارات العالمية في كل أنحاء العالم يستنكرون جرائم إسرائيل وينكرون على العالم صمته أمام ما يحدث من انتهاك لكرامة الإنسان واستهانة بحقوق النساء والأطفال والشيوخ والمدنيين العزّل وأماكن العبادة، والمشافي والملاجئ وفرق الاسعاف والانقاذ.!
معلموهم اللادينيون في الشرق والغرب يرفعون لافتات الشجب وأبناء جلدتنا ولغتنا وثقافتنا يرفعون أصواتهم عالية: اسحقوهم.. مزقوهم.. أبيدوا الأصولية والإرهاب؟!
هل كنت تصدّق أيها العربي أن يأتي يوم يشمت بك من كنت تنتظر نجدته، ولا يساندك من كنت تزعم أنه عضدك ونصيرك، ويوعز عليك من كنت تحسبه حاميك ورافع رايتك والذائد عن حماك وعرضك وأرضك؟!
هل كنت تصدق أيها العربي - إلا في زمن الذل هذا - أن يكون الآخر البعيد عنك محتداً وانتماءً وخلقاً وديناً هو المطالب بإنصافك، المدافع عن قضاياك، الناصر لمظلوميك، بينما تطعن من بعض أبنائك في الظهر، فيقولون نصرة العدو، بالغت في العزائم، والتأليب على الاعتداء، وتبرير الأسباب والدواعي، وتكثير عوامل الفشل والإحباط، والتخلي عن الجماعة، والبراءة من مصطلح (الأمة) والتنكر من الماضي، والانسلاخ من هم الحاضر!!
إن هؤلاء الذين ينخرون في جسد أمتنا ويزرعون فيها بذور الفتنة والشقاق والشك ويخترقون الصفوف، ويشيعون في ناديهم المنكر، فلا حرمة لخلق، ولا كرامة لشعيرة، ولا تسليم بمعتقد، فهم منا براء، ونحن براء منهم!.
ولئن كانت الأمة تواجه صداماً حضارياً شرساً على مستويات متعددة، تقنية وأخلاقية واقتصادية وعسكرية، فإن أشرس ما في هذا الصدام وأكثره قسوة على النفس حين يمثل الشق الأكبر منه من هم بيننا، يتحدثون بلهجتنا، ويتنفسون هواءنا، ويشاركوننا الأرض والجغرافيا والشمس والقمر، والحر والبرد، ولكنهم أبعد عنا - في حقيقة الأمر - ممن يختلف معنا رطانة وانتماء وثقافة ولوناً وجغرافيا.!
فيا أيها الليبراليون المولون وجوهكم نحو الشرق والغرب لا تأمنوا الدوائر، فما (طال راسك طال رجليك) كما يقول المثل الشعبي العميق، وحتى لو كرهتم ماضيكم، وحتى لو تنكرتم لموروثكم، وحتى لو أعلنتم ولاءكم للثقافة الأخرى لن يجعلكم في منأى عن نيران العدو ولا قصفه ووصمه وكراهيته، فلن يقبل منكم لا بعض الولاء ولا كله، ولن يرضى عنكم ليبراليين فقط، بل حتى تتبعوا ملتهم!!.
لقد كشر العدو عن أنيابه، وابتدأت مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد بغداد، تعلون إسرائيل هي سيدة هذا الشرق، وهي الآمرة الناهية التي تمتد فلا يوقفها أحد، وترفع راياتها الزرقاء على التضاريس الجديدة المنتظرة فلا يهش ولا ينش عربي هنا أو هناك!!
هكذا يراد لنا أيها الليبراليون فهل ترضون أن تعيشوا ذل المرحلة القادمة إلى ذل هذه المرحلة، وهل ترضون لأهلكم وأوطانكم يا من تهللون للعدو الآن أن تئز طائراته المتوحشة فلا يردعها رادع ولا يوقف دمارها مقاوم؟!
أيها الليبراليون الذين تسلقوا على المصطلح وتخربشوا به وما وعوه، لن تكونوا إلا كما أتيتم ولو بعد حين، لن تكونوا (هم) ولو ملتم كل الميل، فلا تمدوا الخطو إليهم وأنتم مغمضو الأعين إعجاباً وحباً وولاءً، فلا اقبح ولا أشنع ولا أكثر شفقة ممن حاله كحالكم، فقد صرتم بين بين، لا غربيين فنعرفكم بذلك، ولا شرقيين فلا ننكركم، مشيتم مشية الغراب، وغنيتم بصوت الهجين، وكتبتم بلغة الرطين، وبصرتم برؤية الكسيح؛ فضيعتم أصلكم ولم تشرفوا باعترافهم بكم!
وإذا لم تسعفكم قواكم الأدبية أن تقولوا كلمة تدين الاعتداء وتشيد بالصمود فالتزموا الصمت فهو أشرف لكم وأزكى.
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام
كلية اللغة العربية - كاتب وإعلامي
ksa-7007@hotmal.com