صورة نادرة نشرتها مجلة (اللطائف المصورة) عام 1943م لحديقة الحيوان في برلين عند افتتاحها عام 1840 والصورة - لكل من يهمه الأمر- بها قفص حديدي بالحديقة يتجمع حوله بعض زوارها وهم يلقون بالموز والفول السوداني لأسرة إفريقية عارية تماماً إلا من بضعة أوراق شجر تغطي العورات..
الأسرة تضم شيخاً في السبعين من عمره وأبا في نهايات عقده الثالث وزوجة وطفلاً رضيعاً والقفص مكتوب عليه من الخارج (أسرة همجية تم صيدها من غابات إفريقيا السوداء)!!! (من رواية تغريدة البجعة لمكاوي سعيد ص 233).
المدهش أنه على خلاف هذه الصورة المغرقة في عنصريتها نحتفل كل عام مع العالم، وذلك يوم 10 ديسمبر بمرور ستين عاما على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي وقعتها آنذاك كثير من دول العالم (48) دولة وتم تطويرها عام 1966م لتشمل الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ووقعت عليها أكثر من دول العالم حتى الآن (انظر تلخيصا مكثفا لذلك في مقالة د. الحبيب في جريدة الجزيرة في 15-12- 2008م).
لا شك أنها رحلة طويلة مر بها تغيير الرؤية الإنسانية وإلا كيف يحدث أن يتمكن من كان بالقفص عارياً قبل قرنين من الآن أن يحكم من أعتقه وليتمكن عبر تسييره لأقوى دول العالم من التأثير على كل ما يحدث في حياة كل البشر من كل الأعراق البيضاء والصفراء ممن ينتشرون عبر هذا العالم..
وقد ظللنا هنا في المملكة في منأى عن تيار الحقوق باعتباره مطالبة تتضمن بالضرورة الحقوق السياسية التي لم تكن مطروحة آنذاك للنقاش.. غير أن حراكا ثقافياً وفكريا جاء بعد الحادي عشر من سبتمبر.. وأفسح له الملك عبدالله المساحة منذ توليه الحكم سواء في الإعلام أو المؤسسات الرسمية للدولة مما جعل مفاهيم حقوق الإنسان متداولة داخل المجال المحلي لتشمل بالضرورة الكثير من المطالب التي طرحتها منذ الستينيات التيارات الليبرالية في العالم العربي والخليج من مثل الديمقراطية وبناء مؤسسات المجتمع المدني وحقوق المرأة وحقوق الأقليات العرقية والدينية.
ومن الضروري في هذا الصدد التأكيد على أن مفاهيم حقوق الإنسان ليست أمراً سهلاً يتم قبوله واستيعابه وتمثله في بنية ثقافية ومعرفية تعتمد القياس والتقليد والبناء على أمجاد تاريخية شكلت في يومها حركة الحضارة الإنسانية وهي اليوم جزء من التراث الإنساني العالمي الذي نستوعبه ونبني عليه مفاهيمنا الجديدة المرتطبة بتغير احتياجاتنا وبنيانا الفكرية والثقافية بما يتماشى مع قيم عالم اليوم مما يعني بالضرورة تغيرا واضحا في البنى الفكرية لنا، وحين نصل كسعوديين إلى هذا المستوى في الطرح وفي النظرة لمفاهيم حقوق الإنسان فيجب أن نكون سعداء حقا بحجم التحولات في البنية الفكرية التي طرأت على هذا المجتمع الذي لم يكن يرى منه غير نفطه حتى عهد قريب حتى إننا جميعاً نتذكر الكتاب المشهور للدكتور الرميحي الخليج ليس نفطا فقط والذي ظهر في منتصف الثمانينيات.
هناك تحولات فكرية كبيرة يجب أن نحتفي بها ونغذيها ونعمل على إتاحة التدريب والقبول لها ما أمكن إذ إن فهم الحقوق والمطالبة بها هي فكرة حديثة جاءت كجزء من ثمرة العمل الإنساني ككل، ومن ثم كان من الضروري التدرب عليها وعلى أساليب المطالبة بها حتى تترسخ كجزء من البنية الفكرية والمعرفية، وتظهر في السلوك الإنساني كممارسة ولن يحدث ذلك إلا إذا اقتلعنا الكثير من مخاوفنا وأوهامنا خاصة ما تعلق بدور المواطن في الخليج ودرجة سماح الحكومات بمشاركته في الشأن العام والسياسي وحاولنا عبر المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية تأكيد حق التربية السياسية لهذا المواطن بغض النظر عن جنسه ولونه ومستوى تعليمه أو طبقته ومنطقته.
وفي بحث لنيل درجة الماجستير تقوم به إحدى الطالبات في جامعة الملك سعود حالياً ويدورحول دور المدرسة الابتدائية في تأكيد مفاهيم المواطنة عبر مفاهيم التربية السياسية كان من الطريف ومن المتوقع بالطبع رفض المعلمات لمفهوم التربية السياسية بل قلق وزارة التربية نفسها من المفهوم حتى إنها أعاقت الطالبة شهورا حتى تمنحها حق تطبيق الاستبانة وبعد وساطات مكوكية هائلة تمكنت الطالبة من دخول مناطق المحظور وهي مدارس البنات الابتدائية للتعرف على درجة وعي المعلمات والمدرسة بدورهن في التنشئة السياسية للطالبة الذي لم يكن مفهوماً متداولا بين المعلمات أو الإدارة فكيف بالطالبات!
من هنا جاءت أهمية التهيئة الذهنية لمفاهيم حقوق الإنسان حتى تترسخ كجزء من البنى الفكرية الممارسة خاصة وأن عصر اليوم هو عصر الحق الإنساني بما يساعد على تعزيز هذه المفاهيم وتذويب ذلك التضاد الثقافي والفكري في العقلية الخليجية على وجه التحديد مما شكل وحتى وقت قريب سدودا منيعة لقبول فكرة الحقوق الإنسانية.
ولعلنا هنا نستعيد جزءا من الكلمة التي ألقاها (مجازا) المحامي عبدالرحمن اللاحم في حفل تسلمه لجائزة هيومن رايتس واتش السنوية التي فاز بها إلى جانب أربعة آخرين عرفوا في بلدانهم أوزبكستان والكونغوا وبورما وسيرالانكا بأنهم مدافعون نشطون عن حقوق الإنسان وهو يقول:
(عالمية (حقوق الإنسان) أصبحت اليوم أحد المعالم الثقافية لعالمنا الجديد حيث لا يمكن (التترس) خلف الخصوصية الثقافية أو الدينية لانتهاك حقوق الإنسان الأساسية أو مصادرة حقوقه تحت ذرائع ثقافية أو دينية، وإنما أصبحت تلك الحقوق مكتسبات أيدتها الفطرة البشرية السليمة، ورسختها الاتفاقية الدولية، وأصبحت شرعة دولية لا يجوز تجاوزها أو القفز عليها بأي ذريعة وتحت أي لافتة).
هذه هي البنية الفكرية التي نسعى لها.