كان العرب قبل الإسلام متناحرين تهزمهم العصبية والفرقة والصراعات الداخلية، لكنهم في يوم ذي قار قرروا لأول مرة في تاريخهم أن يتحدوا ضد كسرى، وأن يردوه مهزوماً إلى بلاده بعد أن طلب استباحة نسائهم وأراضيهم، والتساؤل الذي ما زال يبحث عن إجابة هو عن ذلك الدافع الذي جعل من العرب يجتمعون في ذلك اليوم، ولماذا قدموا من كل صحراء وواد من أجل نصرة إخوتهم العرب ضد تسلط كسرى وأطماعه الشريرة، وما هو الرابط الذي أخرجهم من تفرقهم إلى اتحادهم ضد العدو..
لم يكن يجمع العرب في ذلك العصر رابط ديني أو طائفي أو قبلي، ومع ذلك شيء ما دفعهم للتوحد ضد عدوهم المتغطرس، فقد اضطروا للاتحاد رغم خلافاتهم العديدة عندما قرر كسرى مهاجمتهم في ديارهم بسبب رفض هانئ بن مسعود عامل كسرى أن يحضر ما عنده من نساء النعمان وسلاحه وعتاده..
ربما كان الشرف ورابط نصرة الأخوة العربية في ذلك الزمن هو الذي دفعهم لتحقيق نصرهم الأول ضد أعدائهم، أو ربما كان رابط المصير الواحد والمصالح المشتركة..
يذكر التاريخ أن قبائل العرب التي كانت ضمن جيش كسرى انضمت لإخوانهم العرب بعد أن تجلت بوادر النصر العربي.. ولم تكد تمضي سنوات حتى ظهر الإسلام بعد ذي قار ليوحدهم، ويعلن بدء تأسيس أمة لا تغيب عنها شمس التاريخ..
لكن العرب عادوا مرة أخرى في هذا العصر إلى تفرقهم، وأضحوا أمماً غير متحدة، لا يجمعها رابط أخوي، ولا دين موحد، فالأخوة العربية أضحت قومية وأدلجة كما يردد بعض مثقفي التيار الليبرالي في أطروحاتهم، كذلك هو الحال في مرجعية الإسلام، والتي تشتت إلى فرق وطوائف لا يمكن حصرها بيسر في هذه المقالة، وما يزيد الواقع تناحراً صعود ترمومتر الكراهية إلى مؤشرات غير مسبوقة فيما بين الطوائف الدينية..
كذلك أصبح من ينتمي إلى تيار العروبة أو إلى هوية دينية ذات بعد سياسي أو طائفي حركي، يستحق لقباً مؤدلجاً أو إرهابياً وغيرها من المصطلحات التي يُساء استخدامها في الحراك العربي المعاصر..
ما يحدث في غزة من انتهاك لحرمة الأرض العربية ولنسائها وأطفالها وشيوخها هو نتاج عصر فشل فيه السياسيون والمثقفون في تحويل قيم ومصطلحات الحداثة الغربية لخدمة شعوب العرب وحماية حرمة أراضيهم ومقدساتهم وثرواتهم.
لا يمكن نفي صفة الأدلجة عن الغرب الأمريكي والأوروبي وعن إسرائيل، بل هم مؤدلجون بتاريخهم وحروبهم ودياناتهم ومصالحهم في المنطقة.. فالناس بطبعهم مؤدلجون، ولا يوجد إنسان خال تماماً من الأدلجة، لذلك من المؤسف أن يُستغل الخطاب الحداثي لضرب وحدة العرب والمسلمين من خلال وضع رابط الأخوة العربية ومرجعية الدين وشرف الهوية موضع شك وتجريم..
يمثل الوضع العربي في هذا العصر أحد أسوأ نتائج سوء استخدام الخطاب العربي الحداثي ضد الإيجابيات التي تجتمع عليها أمة العرب والإسلام... ظهر ذلك جلياً عندما برر بعضهم مشروعية ضرب غزة لأن حماس تنوي تأسيس إمارة إسلامية فيها..
الفرق بين العرب والغرب أننا نفهم الأدلجة أو التنوع الطائفي والثقافي والسياسي على أنها محاولة لتفكيك الداخل، بينما يفهمها الغرب على أنها تنوع ثقافي وسياسي ضمن النسيج الغربي، يتفق إذا شعر بالخطر من الخارج، ويتحد في الداخل من أجل الدفاع عن أراضيه وشعوبه ومصالحه.