الإفساد عكس الإصلاح ونقيضه تماماً، فالإصلاح والفساد لا يلتقيان أبداً، مثلا الشتاء والصيف، والليل والنهار، والثلج واللهب، والحرب والسلام، والبياض والسواد، والملح والماء.. فالفساد آفة كبيرة مثل (العثة) تقرض المجتمع وتهدد كيانه، والفساد إذا حلَّ في مجتمع بدأ الخراب والدمار والانحلال،..
... والفساد مثل الشرار؛ حيث لا يسلم أي من المتحلقين حول موقد النار من أضرار، وهو أي الفساد لا يمكن تحسسه أو رؤيته بالعين المجردة؛ لأنه شيء هلامي غير قابل للإدراك، وقد تجده في بعض الأشخاص أو المؤسسات أو الدوائر أو المراكز أو في المحافل الإقليمية أو الدولية أو حتى في الجمعيات الخيرية أو دور الرعاية أو دور الإيواء أو في التعاملات والعلاقات الدولية. والفساد صفة رديئة وتهمة جاهزة يطلقها من يريد الحصول على المال وعلى النفوذ بطرق غير مشروعة على منافسيه أو خصومه ومعارضيه. إن ما نسمعه عن كثير من حوادث الفساد والمفسدين يجعلنا نقف كثيراً ونتأمل هذه الظاهرة التي حدثت منذ أن خُلق الإنسان وتطور في النمو وفي البناء وابتكار الأشياء. إن ظاهرة الفساد والمفسدين غير حديثة، ولا هي جديدة، ولم تخل أي من العصور القديمة والأزمنة الغابرة من هذه الظاهرة المخيفة والبشعة التي تدعو إلى التقيؤ، لكن للفساد أوجهاً، وله درجات، وله مراتب، وله أشكال، وله أنواع، ولا يختلف مفهوم الفساد باختلاف المكان والزمان. إن الله سبحانه وتعالى أورد عدداً من الآيات الدالة على الفساد والمفسدين في مواقع كثيرة من القرآن الكريم، منها على سبيل المثال لا الحصر:
* {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}
* {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}
* {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}
*{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}
* {لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}
* {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}
* {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}
* {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}
* {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}
* {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
* {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}
* {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}
إنَّ الفساد جريمة كبيرة تلحق المجتمعات بالضرر، وهو عمل غير أخلاقي، ولا ينمّ عن روح إنسانية مفعمة بالبياض والإصلاح والنية الحسنة، والفساد يسبب حالة انفلات وفوضى وأذى لكافة أفراد المجتمعات وعلى كافة الصعد، والفساد يزكم الأنوف ويصيبها بحساسية دائمة لا يمكن الشفاء منها وإن اختلفت أساليب التداوي وتنوعت، وهو سلوك لا ينسجم مع الأهداف والمبادئ الحسنة، وهو استغلال واغتصاب لحقوق الآخرين في المال وفي الوظيفة وفي التعامل الخاص والتعامل العام وحتى بين أفراد الأسرة الواحدة والمجتمع الواحد والإقليم الواحد والعائلة الواحدة والعشيرة الواحدة. والفساد باب كبير أوسع مما نتصور وندرك ونعي؛ لأنه يشمل كافة مناحي وأوجه الحياة ومناشط الإنسان وأعماله وفعالياته، كما يشمل سلوك الإنسان وتصرفاته وتوجهاته وعلاقاته ومبادئه. إن للفساد صوراً وأشكالاً كثيرة جداً ومتشعبة، وليس بمقدورنا أن نحصر هذه الأنواع من الفساد ونؤطرها ونضعها في حيز أو مكعب معين له من الطول والعرض ما يجعلنا نحدد مسار هذا الفساد واتجاهاته والحد من قدرته على النمو والتفاعل. إننا وإن حاولنا الركض تجاه القضاء على الفساد بكل معاول الهدم والقتل والمبيدات السامة والطرق المختلفة فلن نستطيع مطلقاً إن لم يكن الفرد نفسه متحصناً برداء الخوف والوجل من الله عز وجل ومتبعاً لتعاليم شريعته البيضاء النقية التي تحث على عدم الفساد والإفساد في هذه المعمورة التي استخلفنا الله فيها لعبادته وإعمار أرضه، وإن علينا أن نورَِّثها أرضاً طيبة معمورة صالحة للأجيال من بعدنا بعد أن ينقضي العمر وينتهي الأجل. إن الإنسان المفسد هو ذلك الإنسان التي تتعارض مبادئه وسلوكه وأخلاقياته مع الفطرة السوية والأهداف القويمة؛ لأن فساده هذا يلحق الضرر والغبن بالآخرين ضارباً بعمله هذا عرض الحائط كل القوانين والأنظمة والأسس والعادات والتقاليد التي تحد من خطر الفساد وتدعو إلى بتره. إن الرسل والأنبياء جاؤوا من أجل إصلاح المجتمعات ومحاربة الفساد وتحرير الإنسان من عبودية الإنسان، ووضعوا قوانين العدل والمساواة ونشروا آيات السلام والتقوى بوحي من الله، وكذلك فعل المصلحون من بعدهم وعلى هداهم. إننا اليوم بحاجة ملحة وقوية إلى تطبيق ونشر ثقافة الإصلاح بين أفراد المجتمع والتحذير من خطر وباء الفساد وشروره وويلاته ومآسيه وعواقبه الوخيمة وغيومه السوداء الداكنة ما استطعنا بذلك من عزيمة وقوة وإصرار ووقت.. وعلينا تنوير أفراد المجتمع وإيضاح صور الفساد البغيضة لهم دنيا وديناً وأخلاقاً ومبدأ وشهامة وعزة بكل الطرق والأساليب الإعلامية المختلفة المتاحة. إن علينا الركض باتجاه الإصلاح دون تلكؤ أو تباطؤ، وعلينا الركض أيضاً دون تلكؤ أو تباطؤ أو حتى هرولة من أجل إيضاح الصورة القبيحة للفساد والمفسدين في الأرض؛ لأن الله ذمهم، فدعونا نذمهم.
ranazi@umc.com.sa