عنوان الكتاب صدر حديثاً لفضيلة الشيخ: محمد بن حسين الموجان، رئيس محكمة، والقاضي بالجزئية بجدة، فمجازاً هو كتاب، أما الحقيقة فهو موسوعة علمية وثائقية، عن الكعبة المشرفة، وسجل تاريخي لرمز أساسي في عقيدة المسلم.. بذل فيه مؤلفه جهداً كبيراً، مع الصبر على المتابعة والبحث والاستقصاء. خلال عشر سنوات، كما ذكر في تعريفه بما أوصله إلى المستوى اللائق، في بحث دؤوب، وعمل متواصل، وبميزانية مفتوح...
حتى خرج هذا الكتاب، بحجم ورسومات، وحسن إخراج، وطباعة أنيقة، بما يتلاءم مع مكانة الكعبة المعظمة في قلوب المسلمين. فهي أول بيت وضعه الله للناس، كما قال سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (96-97) سورة آل عمران، بحيث تشرئب إليه الأعناق، وتهفو القلوب، خصه الله بالتكريم، والعبادة، ومضاعفة الأجر فيه، والعذاب الأليم لمن أرد به شراً، أو إلحاداً.. واهتم به أنبياء الله والصالحون تعظيماً وعبادة، وشد الرحال في أي وقت ليلاً أو نهاراً.
والعرب في جاهليتهم مع شركهم وضلالهم، يقدسون هذا البيت؛ لأنه حرم الله، ويعطونه من الاهتمام والتقدير ما يليق به، فلا يسفك بجوانبه دم، ولا يحاربون في شهر الحج، ويكرمون من يفد إليه، ويقصدونه عند التصالح أو التصافي.
ولذا استحقت الكعبة المعظمة المكانة الرفيعة في قلوب من يعظمون ما عظمه الله، ويتوافدون سراعاً إليها حجاً واعتماراً، وزيارة على مر العصور، وتتسامى الأعناق تشرفاً بمكانتها، ومحبة لجوارها.. كما تبارى الملوك والرؤساء وأصحاب الوجاهة، بل وفي مقدمتهم أنبياء الله بعمارتها مادياً ومعنوياً، أما مادياً بالتحسين والكسوة، والإعمار والمدافعة.. ومعنوياً بالتقدير والإجلال والتكريم لها، ولمن جاورها، والمحاماة حولها.
وقد حرص المؤلف في جهده العميق أن يذكر بعضاً من المكانة، التي تستحقها الكعبة المعظمة، التي ترق القلوب بقربها، وتسخو الأيدي في النفقة عند قصدها، وتدمع العيون شوقاً إليها.. كيف لا وهي بيت الله في الأرض، يقصدها المذنب ليتوب، ويجدد حياته بعدما يأنس بالطواف حولها، حيث يجد الروحانية والهدوء يغشى قلبه، وترتاح معه جوارحه.
ولعلنا نسير خطوات مع المؤلف، لنتأمل بين سطور ما رصد في رحلته العلمية، مع الكعبة المعظمة، مستلهما المكانة لبيت الله، مما رصد تاريخياً، وما عمل لهذا البيت من التكريم، والعمل المخلد لها في مختلف العصور.
فقد اهتم المؤلف بأن يخرج كتابه متوشحاً بالوقار والعظمة، وبما يليق بمكانة الكعبة المشرفة، التي أحلها الله بأفضل المواقع على وجه الأرض وبالمركز الذي به الوسطية، في الكوكب الأرضي، حيث أسهب في هذا الفلكيون، والجغرافيون.
وإن كان هذا الموقع في نظر بعض الناس لا يبرز أمامهم التقديس والمظاهر القاصرة؛ لأنها بواد غير ذي زرع، تمثل موقعاً ضيقاً بين جبال شاهقة، وبأرض مقفرة.
لكنها حكمة بالغة من الله جلت قدرته، وتعظمت أسماؤه وصفاته، أرادها سبحانه، يبين بالتأمل شيء قليل، استنتاجاً من قوله صلى الله عليه وسلم: لما سئل عن الحج، بعدما نزلت آيات التشريع، في سورة آل عمران، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج، بقوله الكريم: (عباد الله إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا)، فقال سائل: أفي كل عام يا رسول الله؟! فسكت ولم يجبه، وفي الثالثة قال: لا.. ولو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم: الحج في العمر مرة واحدة.
فوراء هذا الجواب يستنتج الناس، في كل عصر ومصر، فوائد وحكم، من حيث المصالح للأفراد والجماعات، والمكان والقوافل وما يترتب على خلو ديار المسلمين وبيوتهم، في ذهابهم جماعياً للحج، وما يتربص به الأعداء، من أضرار وممتلكات، وغير هذا من أمور تهيئ الفرصة، مع النذير الجماعي، من مفهوم الدلالة من كلمته الكريمة: (ولما استطعتم).
إلا أن حكمة الله جل وعلا، أنه لا يكلف العباد بما فيه مشقة عليهم، أو تعطيل لمصالحهم ومعايشتهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(16) سورة التغابن، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}(286) سورة البقرة.
وهذا من يسر الإسلام، وحكمة الله البالغة، ألا يكلف العباد بما فيه مشقة عليهم، أو ضياع مصالحهم الدنيوية، أو يكون فيه مدخل للأعداء ليتحكموا في مصالح المسلمين، مما يسبب ضعفهم، والله يريد لهم القوة والعزة، التي ترتفع معها مكانة الإسلام، وتجعل لهم مهابة كما قال صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر).
وقد زين المؤلف كتابه هذا، مع الملاحق بالزخارف القرآنية، وما تفنن فيه الخطاطون، والتشكيلات التي تنبئ عما اهتم به المسلمون للكعبة المشرفة تحسيناً وتجميلاً، على مر العصور، وحلوا بها كسوة الكعبة، وما يهدى لها من مزهريات. وغيرها.. مما جعل المسلمون أفراداً وجماعات، يهتمون باقتنائها، كما أشار المؤلف في آخر الكتاب عن الجهات التي تعاونت معه ومدته بكل ما يفيده في جهده هذا، مما بان أثره، لكل من يتصفح هذا الكتاب، الذي بلغت صفحاته 454 .
قدم لكتابه هذا، معالي وزير الشؤون الإسلامية، الذي أفاد المؤلف ببعض مقتنياته، وفوه عنها، وقد أثنى معالي الوزير على المؤلف وصبره ومثابرته في البحث، ومما قال عن المؤلف: بأنه باحث مدقق، وشغوف بالحقيقة، وكتابه هذا ليس كتاباً معتاداً، ولا مكروراً، فيه الجديد تاريخاً، وصورة للكعبة المشرفة، حيث قال أيضا: إنني لفرح بهذا الجهد العظيم، لأننا كدنا لا نراه، إلا في أعمال المستشرقين فيما مضى، وقل ما شئت، بعد أن ننظر في هذا المجموع، والتدقيق لصون الكسوة، وما يتصل بها.
إني لشاكر لأخي الشيخ المدقق محمد بن حسين الموجان، هذا الجهد الذي سيجعله من علم الحاجة إلى مثله، وأدرك فقر مكتبتنا السعودية، بل الإسلامية إليه، وأرجو أن يكون بحلته القشيبة، وحسن مظهره ومخبره مرضياً لشداة البحث، والفن الإسلامي، والتاريخ المشرف للكعبة المعظمة.
بعد هذه المقدمة المزدانة بالإشادة بعمل المؤلف من الوزير، في صفحة كاملة مؤرخة في 19 شعبان عام 1425هـ، تلاها صفحة ونصف مزدانة بالروعة والجمال، وفيها الفهرست لموضوعات الكتاب الكبير في حجمه، النافع في محتوياته، ضمن الأبواب العشرة التي تلتها الملاحق.
وقد وضع المؤلف مقدمة من ثلاث صفحات، تتخللها أشكال جميلة من الخطوط، بأسماء الله الحسنى، جمل بها صفحات الكتاب: ألواناً وزخارف، وأبان في هذه المقدمة، بخطها المرصوف، منهجه في التأليف، وبعض الصعوبات التي مرت به، وما تضمنه كتابه بأسلوب جيد العبارة، يشد القارئ لاستملاء ما انتهجه المؤلف، لكي يحس بما مر به، ويشوقه إلى تتبع تلك الخطوات.
ويحتل رسم خيالي بالصفحتين 22 - 23، أراد راسمه به إبراز مكة المكرمة، وهي بين الجبال، والجماهير الكثيرة، وهي وافدة إليها من أنحاء المعمور من الأرض، متزاحمة في مسيرتها، على أحد أبواب الحرم - لعله يرمز إلى باب السلام - الذي يدخل الحرم معه كل وافد لبيت الله، مستجيبة هذه الجماهير لدعوة أبو الأنبياء إبراهيم الخليل، عليه السلام، عندما أمره ربه بأن يؤذن من الناس بالحج.
وجاء في ص24 رسم يتوسطها برمز للكعبة، ويحيط بها اثنا عشر قسماً، عنون لكل واحد بكلمة قبله، وتحت هذا العنوان حدد أسماء الأماكن على وجه، واتجاه قبلتهم، إلا أنه لم يذكر في هذه الأقسام شبه الجزيرة العربية، ولا نجداً.
وبالتمعن في قراءة الأماكن، واتجاه قبلتها حسب الرسم، يلاحظ عدم الدقة في ذلك وهو رسم يدوي ملون بخط أقل من الوسط. إلا أن منظراً جوياً للجزيرة العربية، وحدود المملكة مع جيرانها، يغني عما جاء في ذلك التصور.
كانت بداية الأشكال الزخرفية في ص42 - 43، تمثل كسوة الكعبة الداخلية، المصنوعة من الحرير الأحمر والأبيض في إستانبول، في عهد السلطان عبدالعزيز بن محمود، وكسيت بها الكعبة في عام 1277هـ - 1861م، ويتكون طرازها من أربعة أشرطة (للبحث صلة).
كسوة الكعبة عند بعض الخلفاء:
قال الأزرقي في كتابه أخبار مكة: كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة من الحبرات، فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج، الخسرواني، فلما كان ابن الزبير اتبع أثره، فكان يبعث لأخيه مصعب بالكسوة كل سنة، فكانت تكسى يوم عاشوراء، وكان ابن عمر يجلل بدنه بالأنماط، فإذا نحرها بعث بالأنماط إلى المجبة، فيجعلونها على الكعبة، قبل أن تكسى الكعبة.
فلما ولي عبدالملك بن مروان، كان يبعث كل سنة بالديباج، فيمر به على المدينة، فينشر يوما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأساطين هاهنا وهاهنا، ثم يطوى ويبعث به إلى مكة، وكان يبعث بالطّيب إليها، وبالمجمر إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم كان أول من خدم الكعبة، يزيد بن معاوية، وهم الذين يسترون البيت، وقد كانت الكعبة تكسى في كل سنة كسوتين: كسوة ديباج، وكسوة قباطي، فأما الديباج فتكساه يوم التروية، فيعلق عليها القميص، ويدلى ولا يخاط، فإذا صدر الناس من منى، خيط القميص، وترك الإزار، حتى يذهب الحجاج لئلا يخرقونه، فإذا كان العاشور، علق عليها الإزار، فوصل بالقميص، فلا تزال هذه الكسوة الديباج عليها، حتى يوم سبع وعشرين من شهر رمضان، فتكسى القباطي للفطر.
فلما كانت خلافة المأمون، رفع إليه أن الديباج يبلى ويتخرق، قبل أن يبلغ الفطر ويرقع حتى يسمج.. فسأل مبارك مولاه، و هو يومئذ على بريد مكة وصوافيها، في أي الكسوة للكعبة أحسن؟ فقال له: في البياض، فأمر بكسوة من ديباج أبيض، فعملت فلقت سنة ست ومائتين، وأرسل بها إلى الكعبة فصارت الكعبة تكسى ثلاث كسا الديباج الأحمر يوم التروية، وتكسى القباطي يوم هلال رجب، وجعلت كسوة الديباج الأبيض، التي أحدثها المأمون يوم 27 من شهر رمضان للفطر، ثم قال: وهي تكسى إلى اليوم ثلاث كسا، ثم رفع للمأمون أيضا: أن إزار الديباج الأبيض الذي كساها، يتخرق ويبلى في أيام الحج من مس الحجاج، قبل أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر، الذي يخاط في العاشور فبعث بفضل إزار ديباج أبيض، تكساه يوم التروية، أو يوم السابع، فيستر به ما تخرق من الإزار الذي كسيته للفطر، إلى أن يخاط عليها إزار الديباج الأحمر في العاشور (أخبار مكة للأزرقي 1 : 257 - 256).