ما أعذب الشعر النبطي، فيما يخص (السامري) الذي يعبر من اختلاجات ولواعج القلب في موجة عارمة من الفرح والحبور، في مناسبة الأعراس، وإن كانت ضنينة مثل هذه العادة الشعبية في حفلات القصور والفنادق، فإنها لازالت مرغوبة عند الكثير، في مناسبة الرحلات البرية ذات (المخيم) الربيعي وسط الجبال والشعاب والغدران الجميلة. ف(السامري) في مثل هذه الأجواء اللطيفة ذات الأراضي المكتسية بالأعشاب البرية والمياه المتدفقة التي أعقبها الأمطار، يهرع إليها عشاق الصحراء بخيامهم وأطعمتهم وجميع مستلزماتهم البرية وذلك لقضاء بضعة أيام مؤنسة.
|
ويحرص الكثير منهم من محبي هذا اللون من التراث الموروث (السامري) في تناول الكثير من قصائده ذات الإيقاع السامري الزاهر، ما بين عذوبة القصيدة واللحن والأداء في جو حميمي ملؤه التجرد من بهرجة الحياة وزيفها والانعتاق من مشاغلها ومكدراتها المملة.
|
(السامري) مثله مثل الأهازيج الشعبية العديدة ك(العرضة) و(الهجيني) و(المراد) وشعر (الربابة)، إلا أنه يمتاز بقصائد ذات لون خاص به تتواءم مع وقع (الطبول) وله عالمه من المختصين به، وفق (فرق) شعبية ذات خبرة في القصيدة واللحن والأداء العذب الذي يطرب السامعين ويأخذهم نحو الإصغاء والخيال العاطفي، وكل يحسب أن القصيدة تعني حالته المتيمة.
|
ففي هذه الأجواء الجميلة ينداح (السامري) ذات ضحى أو مساء بين صفين متقابلين ممسكين بالطبول (المزركشة) ضاربين عليها في إيقاع فني متناسق لا يقل عن تناسق الصوت الغنائي الموحد ما بين الطبول وحسن القول.
|
هذا اللون من (السامري) متعارف عليه بمنطقة (نجد)، وكل له إيقاع خاص به، إلا أن منطقتي القصيم وحائل تأخذان بمجامع قلب السامع، فمن يصغي لسامري (عنيزة) يظن أنه سامري حائل، والمثل بالعكس، وأنا لا أفرق بينهما حينما يكون الأصغاء على شريط تسجيلي، ولا أنسى ذلك (السامري) الذي سمعته والمناسبة كانت حفلة زواج في (عنيزة) منذ سنوات خلت.. حينما حضرت الفرقة، وبدأت الطبول نائحة ذلك النواح المتناغم مع الصوت الرهيب، يقول الثنائي من الصفين:
|
يا بن سالم ترى قلبي عليهم حزين.. |
السبب صاحبي زعلن ولا أرضيتناه |
صاحبي عود موزين والهواء به مبين |
لبيت من هو يرأس الغصن يقطف جناه |
صاحبي ينقش الحناء يكفن حسين.. |
مثل نقش المطوع بالقلم والدواه |
تلاها عدة قصائد سامرية جميلة، أخذت بنا السهرة للهزيع الأخير من الليل، وقد تدفقت المشاعر وتشربت النفوس متعة عذوبة السامري النجدي الجميل.
|
الغناء السامري الحائلي، أسمعه من خلال سهرة سامرية، والمناسبة في حفلة خاصة تحت سفوح جبل مشار بحائل ذات مساء حينما حضرت الفرقة وانكبت على الطبول، تخللها لحظة تحضير القصيدة وتشكيل ثنائي جميل، بدأت الترانيم على مهل في تجربة مبدئية تحولت لمفاجئة بصوت عال، وكأنهم ماثلون أمامي (يتهزعون) وقد غادرت (العقل) الرؤوس نشوة وطرباً، وكلما زادت عذوبة الصوت كأنه يستحث ويستدعي منهم خارج الخيام للحضور للاستمتاع وقد تهافت الكل مصغين للقول على وقع الطبول:
|
خل التلفون من يمك.. لا ينقطع يا بعد روحي |
الهرج لا صار من فمك.. يصير بالحيل مملوحي |
يا خف جسمك على دمك.. كلك سواليف ومزوحي |
يا ليت من هو ولد عمك... يصير له منك مصلوحي |
تصوير شاعري عذب، وإن كان تشوبه صفة (الأنانية) مشفوعة بالتمني الذي يود لو كانت حبيبته ابنة عمه حتى يكون اللقاء بها مباحاً والزواج بها موضع ارتياح.
|
|
عسى الحي يسقى دباب المحله.. يسقى من الغنية أحد الوريدي |
عساه إلى جاء السيل يسقيه كله.. المطلعه واللي بها من مبيدي |
حفي إلى جد النخل مسهمن له.. خوذيه يلي مثل عنق الفريدي |
يا عين شيهان علي ما كرن له... لا طالعت بالعين توعد وعيدي |
هذا الشعر السامري الجميل بإيقاعه وإقناعه يأخذ السامع نحو آفاق وجدانية رحبة يغتسل لحظتها من همومه واهتماماته اليومية في لحظة أنس ومؤانسة مع شلة من الصحب الخلص.
|
وإذا كانت هذه الترانيم النجدية سقتها هنا عن السامري، فإننا لا نغفل دور الربابة قديماً، فهناك أهزوجة جميلة من أهازيج البادية لدينا وهي (الربابة). ولا أريد أن أتوسع بها فمجالها واسع في باديتنا والبوادي العربية التي تقع ما بين العراق وسوريا والأردن، ومن الأخيرة هذه اخترت لكم أهزوجة تغنى على الربابة، والمحكي البدوي الأردني، يقول عبده موسى:
|
مزين عصر الندى يصويحبي مزين.. أمضمرات الخصر والعين بكحوله |
مثل اليمامات على رأس النبع هدين.. بشعور شقراء على الكتفين مجدوله |
يا تارك القلب على نار الفراق يدوب.. لقدرت لصد الجفاء ولقدرت انساكي |
عايش حزين القلب وبعيشتي منكوب.. ودموع عيني شتاء كانون بتحاكي |
|
إنه القليل والشيء الجميل الذي أوردت البعض منه، والذي لا يمكن أن تمحى من الذاكرة كلما خطرت على البال.. ولمعت على شاشة الذاكرة تضاريس (نجد) بمدنها وناسها وجبالها وأوديتها وشعابها وأمطارها.. ومواسم جداد النخيل بتمورها، ومواسم الحصاد الزراعية ومواسم (الفقع) تلك المواسم التي أشبه بالمراسم الاحتفالية في ربوع (نجد) الغالية.
|
سلامي على نجد ومن كان في نجد |
وإن كان سلامي على البعد لا يجدي |
محمد حمد البشيت |
|