أفتتح مقالي بهذا السؤال المحدد: هل ما قام به الصحافي منتظر الزيدي برمي فردتي حذائه في وجه الرئيس جورج بوش في مؤتمره الإعلامي مع نوري المالكي يوم الأحد 14 ديسمبر 2008م يُعد (تصرفاً إيجابياً) كأن يكون شعوراً وطنياً صادقاً أو عملاً قومياً بطولياً أو رداً اعتبارياً مستحقاً
أو موقفاً إعلامياً شجاعاً، أم هو (تصرف سلبي) من قبيل الممارسات الهمجية والتعبيرات العنترية الجوفاء والخروج عن اللباقة العربية الأصيلة ؟ خاصة وهو رجل إعلامي يفترض فيه أقصى درجات التحضر.
بتقديري أن إجابة السؤال ربما تختزلها غالبية آراء وتعليقات السياسيين والإعلاميين والكتاب وعموم المثقفين الذين توزعوا إلى فريقين على طرفي المعادلة المتناقضة (يا أبيض يا أسود)، وقليل منهم وهو (فريق ثالث) - خاصةً في الجانب العربي - من كتب عن الواقعة بشيء من التفسير البعيد عن آفة التبرير والتحليل بأخذ كل أبعاد الواقعة، لهذا أحاول هنا أن أكون ضمن هذا الفريق الواقعي بهذا المقال، لأن ما يهمني في حادثة الحذاء (القندرة باللهجة العراقية) هو تداعياتها من حيث التأثير الفعلي في السياسة والإعلام الدوليين، أي توصيف الفعل وتفسيره وليس محاكمته أو تبريره، وعليه كان من الطبيعي أن أول ما استوقفني في الحادثة هو تباين مواقف الكتاب والسياسيين والإعلاميين وعموم الناس لدرجة التضاد الجليّ، ففريق بارك هذا العمل (البطولي) في ظل العجز العربي الرسمي عن وقف الغطرسة الأمريكية وسياستها الاستعمارية التي تستند إلى قوتها الدولية وتتحجج بنشر قيم الإنسانية في العالم الإسلامي والمنطقة العربية تحديداً، يقابله فريق آخر انتقد الصحافي صاحب الحذاء لأنه يعكس صورة (همجية) غير حضارية عن الشخصية الإعلامية العربية أمام العالم، بل سخر هذا الفريق (المثالي جداً) من ردود الأفعال الشعبية والكتابات الثقافية والقصائد الشعرية التي أيدت الزيدي أو بررت (حادثة الحذاء)، معتبراً أنها تكشف عن عقدة عربية متجذرة تحكمها العاطفة غير الرشيدة في كل مواقفنا المتعلقة بقضايانا المصيرية أو الطارئة.
ولكن في النظر إلى الحادثة بكل أبعادها نجدها إفرازاً طبيعياً للواقع العراقي المرير، فالصحافي منتظر الزيدي هو إنسان بالدرجة الأولى بجوارح تحس ونفس تختلجها المشاعر وعقل يسجل مواقفه، بهذا لا يمكن أن تفصله عن واقع وطنه، خصوصاً أنه ممن يعيش في أتونه وقد اكتوى بنار أحداثه الملتهبة، وكونه إعلامياً يعمل لصالح قناة (البغدادية) المقربة من الخط السني المناهض للاحتلال فلا يمكن أن يجرده ذلك من (إنسانيته) أو يجامل على حساب رسالته الإعلامية القائمة على مبادئ عليا ترفض الظلم مهما كان مصدره.
إذاً من منطق الأشياء أن نتعامل مع غضبته في إطارها الواقعي وليس حالتها المثالية، التي أخرجها للعلن بذلك الموقف الجريء، ففي الأجواء الساخنة أو المناطق الملتهبة تسقط كل الاعتبارات الرسمية، ضمن قاعدة (الفعل ورد الفعل)، فعندما تدوس حذاء المحتل الأمريكي كرامة الإنسان العراقي وتعبث ببلده لمدة خمس سنوات ولا زالت، بأمر الرئيس بوش وفي حمايته جيشه الجرار وأساطيله التي تنهب نفط العراق ثم يأتي هذا الحاكم بأمره ويعلن أن الغزو كان بسبب (فشل) استخباراتي ليس أكثر، فلا تنظر إلى النتيجة (حذاء المقاوم) وتترك السبب (حذاء المحتل)، فمن صنع الكارثة الإنسانية والفوضى الأمنية عليه أن يتحمل تبعاتهما ويقبل نتائجها حتى في المؤتمرات الإعلامية والمناسبات الرسمية، ولعل هذا هو الدافع الرئيس للزيدي لتكون الرسالة عالمية ولكل أقاصي الدنيا، خاصة ً أن الرئيس الأمريكي يودع تاريخه الرئاسي بالاتفاقية الأمنية، فتبقى في ذاكرة الشعوب الحية التي لا تقبل الضيم، هذا من جانب.
من جانب آخر فإن من يشير إلى البعد الحضاري في الحادثة، عليه أن يتفحص (القيم الأمريكية) التي تتصدر أجندة المشروع الحضاري الأمريكي في العالم، وعلاقتها بالسياسة الأمريكية الخارجية التي هي رأس الحربة لهذا المشروع الاستعماري الذي يحركه (اليمين المتصهين)، وأبرز هذه القيم هي (الحرية)، حتى أن الرئيس بوش قال معلقاً عقب (وداعية الحذاء) أن ذلك يدخل في باب حرية التعبير، وهو بذلك يفضح حقيقة (الحرية المزعومة) التي جاء بها (المخلص الأمريكي) لشعب العراق، حرية لا تتجاوز مستوى الحذاء، حرية مكذوبة جعلت المواطن العراقي حراً في وطن أسير، وتاريخ أمريكا يكشف أنها ليست إنسانية في قيمها الحضارية لأنها إمبريالية في مصالحها القومية.
المضحك في بعض الكتابات الصحافية التي علقت على (واقعة القندرة) أنها تساءلت عن مصير الصحافي الزيدي وعشيرته لو كان صدام حسين هو من تلقى الحذاء، وهذا منطق مقلوب، لأن الأمور لا تقارن ب(الأسوأ) إذا كان هذا المقارن يعتبر صدام أسوأ من بوش، كما أن هناك من تساءل عن خرق أصول الضيافة العربية وكأن مأساة العراق اختزلت في مأدبة عشاء، وثالثاً يجتر الكتابات التقريعية عن (العاطفة العربية) المتفلتة التي ينطلق عنانها دون وعي عند وقوع بعض الأحداث السياسية أو المواقف الإعلامية، رغم أنه لن يتردد بكتابة (مقالة إشادة) أو قصيدة مديح في رجل غربي مارس حقه الطبيعي في التعبير ضد من يراه السبب في مشكلة أو كارثة يعيشها.
وبالمناسبة قبل أيام قام أحد الأمريكيين ويدعى (ستيفن ميليز) برمي الحذاء على مدير عام مؤسسة النقل في مدينة نيويورك لأنه يعترض على زيادة الرسوم في حافلات وقطارات الأنفاق، وعليه أكاد أجزم أن هذا المواطن ومن فوقه النظام الديمقراطي الأمريكي سيكونان محل إشادة من قبل كتاب انتقدوا الصحافي العراقي، فإن كانت لدى شعوبنا العربية (عقدة العاطفة)، فلدى كثير من كتابنا (عقدة جلد الذات)، سواء رمى منتظر الزيدي قندرته في وجه الأمركة، أو تأمرك حتى القندرة.
kanaan999@hotmail.com