Al Jazirah NewsPaper Monday  29/12/2008 G Issue 13241
الاثنين 01 محرم 1430   العدد  13241

واستمرأنا إدمان الذل 2-2
عبد الله الصالح العثيمين

 

كان مما أشير إلى شيء منه في الحلقة السابقة سياسة الخطوة خطوة، التي وضع أساسها الداهية الصهيوني، هنري كيسنجر، والتي كان في طليعة أهدافها إتاحة الفرصة لقادة الصهاينة في فلسطين المحتلة لتهويد ما احتلوه عام 1967م

من أراض عربية وفلسطينية بما فيها القدس الشرقية.

وتلك السياسة الذكية تذكِّر المرء بقصة صاحب الجمل مع صاحب الخيمة. وفحوى هذه القصة أن صاحب جمل أناخ على صاحب خيمة في ليلة شديدة البرودة. وأمل أن يدخل جمله في الخيمة حتى لا يضره البرد الشديد. وبما أنه كان يعلم صغر مساحة الخيمة عن أن يكون فيها مجال لدخول الجمل مع وجود صاحب الخيمة فيها، رجاه أن يسمح له بإدخال رأس الجمل في الخيمة فقط، فأذن له.

وبعد قليل رجاه أن يلحق ذلك - تفضلاً منه - بالسماح في إدخال رقبة الجمل، فأذن له بذلك أيضاً. واستمر في رجاءاته حتى اكتمل دخول الجمل كله.

وكانت النتيجة أنه لم يبق مكان في الخيمة لصاحبها، فاضطر الطيب جداً إلى المبيت في العراء والنجوم تحلب عليه زمهريراً طوال الليل في حين كان الجمل يجتر ما كان في معدته من طعام مرتاحاً متمتعاً بالدفء.

وكان آخر ما أشير إليه بإيجاز عن سياسة الخطوة خطوة الكيسنجرية تلك الخطوة التي تمثلت في مؤتمر مدريد، الذي وصفه وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، جيمس بيكر، بأنه في طليعة الخدمات العظمى التي قدمتها للصهاينة إدارة دولته المطاعة من قبل الزعامات العربية عموماً؛ حباً وغراماً أو خوفاً ورهبة. واستمرت الخطوات تتوالى، لكن وتيرة سيرها تزداد سرعة. ذلك أنه اقتنع من اقتنع من زعماء العرب، أو أُقنعوا بطرح مبادرة سلام مع الكيان الصهيوني. وكان من بنود تلك المبادرة حل قضية اللاجئين الفلسطينيين، لكن لم ينص نصا واضحا بأن هذا الحل يجب أن يكون وفق قرار الأمم المتحدة الذي يعطي الحق للاجئين بالعودة إلى وطنهم أو تعويض من لا يريدون العودة عما لحقهم من أضرار في ممتلكاتهم في فلسطين.

وكان آخر ما لعب الأقوياء، بزعامة أمريكا، بقادة العرب لعب الشطرنج هو ما حدث قبل أيام عندما قبل مجلس الأمن اقتراحا أمريكيا بأن تظل المفاوضات بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية التي يرأسها عباس مستمرة.

ما شاء الله! تبارك الله! أصبحت القضية وما فيها استمرار المفاوضات واستمرارها فقط. ومن المعلوم جداً نتيجة مفاوضات بين قوي مدعوم دعماً غير محدود بأعظم قوة عالمية متغطرسة جبَّارة وضعيف لا سند يدعمه حقيقة من شعبه المبتلى به. وتحمس من تحمس من رجال السياسة العرب، فرأى في مجرد إحالة القضية إلى مجلس الأمن نقطة إيجابية.

لكن ماذا عن مجلس الأمن؟ وماذا عن المفاوضات التي تبنَّى الاقتراح بشأن استمرارها؟

مجلس الأمن جزء من الجهة التي عن طريقها - وبجهود أمريكية متصهينة - قُبل الكيان الصهيوني عضوا في الأمم المتحدة رغم قيامه على ظلم فادح؛ صوَّتت لصالحه من الدول ما صوتت خوفا من عقاب العم سام أو رجاء لثوابه.

ولقد ظل هذا الكيان العنصري يتحدى أي قرار يصدره ذلك المجلس بإدانته على اعتداءاته وجرائمه الشنيعة المتكررة. وكان موقفه دائما كما جاء على لسان أحد أركانه السابقين، موشي ديان، قائلاً: (لا يهم العالم كله ما دامت أمريكا معنا). وكان يدرك غاية الإدراك أن أمريكا؛ جمهورية الإدارة أو ديمقراطيتها، لن تكون إلا مع الكيان الصهيوني. وإذا حدث أن أمريكا المتغطرسة الجبارة وعدت بعض الزعامات من أمتنا ومنتهم بما يبدو لهم جيدا فإنه ينطبق عليها تماما - في نظري - ما قاله الله، جل وعلا، عن إبليس: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}

لقد عبرت عن وجهة نظري في مجلس الأمن وهيئة الأمم وقراراتها مرات ومرات. وكانت أولى تلك المرات عام 1968م؛ وذلك في قصيدة عنوانها: (الحل السليم). ومن أبياتها:

كل القرارات التي صدرت

وتعاقبت من هيئة الأمم

بقيت كما كانت بلا أثر

لا خفَّفت بؤسي ولا ألمي

مفعولها حبر على ورقٍ

ووجودها ما زال كالعدم

لم يبق لي حلم بقدرتها

عشرون عاماً بدَّدت حلمي

الحل عند (الفتح) عاصفة

تزداد عنفاً كل ملتحم

شهم فدائي وثائرة

وهجوم مقدام وضرب كمي

وفيالق في الدرب زاحفة

لتدك صرح عدوة الأمم

كانت تلك الكلمات قبل أربعين عاماً عندما كانت (فتح) عاصفة على الأعداء، وقبل أن ينكشف وبر بعض المتنفذين فيها عن دبرهم؛ فساداً مالياً أو تعاوناً مخزياً مع الموساد. وكانت تلك الكلمات بعد شهور من مؤتمر الخرطوم، الذي انعقد يوم كان أقطاب القادة فيه عرباً يأبون الضيم. أما من خلفوا أولئك القادة الأباة فكنت عبَّرت عن نظرتهم إلى مجلس الأمن في قصيدة عنوانها: (ما أعذب القول!) قائلاً:

السادرون من الحكام ما برحوا

يرجون من سلب الأوطان واغتصبا

لمجلس الأمن قد مدُّوا أكفَّهمُ

ساء المؤمِّل والمأمول منقلباً

هل يفرض المجلس الدولي سلطته

إلا إذا استهدف الإسلام والعربا؟

كان الأمين العام للجامعة العربية قد صرح عند انتهاء مؤتمر لوزراء خارجية هذه الدول في القاهرة بأنه لا فائدة ترجى من مجلس الأمن في حل القضية الفلسطينية لأن أمريكا مسيطرة عليه؛ وهي لا تريد حلا لهذه القضية إلا إذا كان يخدم الكيان الصهيوني وحده. لكن ما بالنا لا نكتفي بما قاله رئيس الدولة المهيمنة على ذلك المجلس؛ وهو الرئيس الذاهب، عندما أعلن في العام الماضي بأن مجلس الأمن ثبت فشله في حل النزاع في المنطقة، وأنه لم يعد مؤهلاً لعمل ما يفيد تجاه ذلك النزاع. ولقد صدق وهو كذوب؟. فالمجلس أداة لأمريكا في حقيقة الأمر تديره وتدبره كيفما تريد. وهي لا تخرج عن رغبة حلفائها من قادة الكيان الصهيوني. وماذا عن المفاوضات التي يراد استمرارها واستمرارها فقط؟

منذ سنوات وسنوات والمفاوضات جارية بين السلطة الفلسطينية وقادة الكيان الصهيوني. لكن الصهاينة ما زالوا يصرون على موقفهم من الأمور الجوهرية. ما زالوا يصرون على أنه لا تفاوض حول القدس؛ بل سيظل شرقيها كغربيها تحت كيانهم. وما زالوا يصرون على أنه لا عودة للاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، الذي احتلته، وأجلتهم منه، عصابات صهيونية قادمة من كل بقاع الأرض، وما زالوا يصرون أيضا على أنه لا عودة إلى حدود 1967م. ولعل مما يبرهن على جديتهم بما أعلنوا الإصرار عليه أن التهويد للأراضي المحتلة - بما فيها القدس الشرقية - ما زال على أشده. ليستمر في المفاوضات من يستمر ممن غرَّتهم الأماني الخداعة، لكنهم لن ينالوا شيئا ذا قيمة مرجوة من مفاوضاتهم. ذلك ما تدل عليه حوادث الماضي والحاضر، وما يشير إليه المستقبل. لكن المشكلة الأساسية هي أن إدمان الذل قد بات متأصلاً عند بعض زعماء أمتنا.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد