يحلو لصاحب هذا القلم بين الحين والآخر أن ينادم الماضي والحاضر متأملاً حال إنسان هذا الخليج، قبل ترف النفط كيف كان.. وبعد النفط كيف آل.. ثم كيف يمكن أن يكون.. بعد أن يغدو ترف النفط كله.. سراباً وذكرى!
**
* كان إنسان الأمس يسعى في مناكب الأرض.. بحثاً عن زاد يومه، لم يكن يهمُّه من أمور الكون شيء.. سوى صلته بربه.. وأن يقهر شبح الفاقة أو يؤجله يوماً.. أو بعض يوم!
* كان قلبه رغم ذلك أقوى إيماناً، وأندى قناعة، وكان خاطرُه أرقَّ بالاً!
**
* وجاء النفطُ إلى هذا الخليج.. فتبدَّل حال إنسانه.. عظُمَ دخلُه.. فتعاظمت حاجاته، نوعاً وكماً.. استيقظت في خاطره نزعة الاستهلاك.. وغريزة التملك وشره البقاء!
* لم يعد يعاني محنة الجوع، بل صار يشكو فتنة الشبع..
* بات الترف المسرف أو الإسراف المترف. عادة يومية.. وطبعاً لا يتبدل!
* يسرفُ.. إذا أكل أو شرب!
* يسرفُ.. إذا اكتسى أو كسى!
* يسرفُ.. إذا سكن أو ركب!
* يسرفُ.. إذا جدَّ أو لعبَ!
**
* دعته شهوة النفط إلى موائد الحس.. لينادمها بلا حساب.. ولا تأمل لأمسه الذي كان، ولا عبرة لغده الذي يجهل كيف يمكن أن يكون! رأى في (تخمة) النفط تعويضاً عن فاقة الأمس.. يوم كان كل شيء.. نادراً وعزيزاً!
**
* نعم.. تبدّل حال إنسان الخليج.. غرق حسُّه في لُجّة اليُسر.. وغار احساسه في قاع الترف.. ضعفت أواصر ذوي القربى.. وعزَّ الاتصال رغم توفر أدواته وآلياته!
* صار أحدهم لا يرى أخاه أو خلّه إلا بموعد خشية أن يفسد عليه بحضوره المفاجئ.. سكينة نفس.. أو حَظوة خلِّ!
**
* البعضُ الآخر.. فرّقتهم مسافات الإثرة والحسد.. وحب المال!
* غدت (المصلحة) ناموسَ الأفراد.. بعد أن كانت حكراً على السياسة وأهلها.. بات جاهُ المرء يقاس بماله لا بخلقه أو تعامله.
* لم تعد الأخلاق ثروة في عرف البعض، بل ريع الأسهم والسندات.. ومضاربات العقار.. وعروض التجارة!
* والأمرُّ من ذلك كله أنه نشأ لدى البعض إحساس غريب ينفّر من هوية الأمس بل وينكرها.. بفطرتها وعذريتها.. ونقائها!!
* تحوّل إنسان الأمس في وجدان البعض إلى مخلوق (قرويّ) القيافة والطبع واللسان.. حلَّ بدلاً منه إنسان النفط (الملوّن) بأطياف الترف الباذخ.. طباعاً.. وهيئة ولساناً!
**
* أجل.. لقد مسخ النفط كثيراً من ملامح أمسنا، وأبقى لنا القليل من مآثر النفس ومحاسن الطبع.. وراحة البال! كثيرون منّا دفعوا ثمن هذا الترف من أعمارهم وأموالهم وصفاء أنفسهم، إلا من رحم ربي ديناً وعقلاً وخُلقاً!