أذكرها تتطوَّف بمخيلتي، كلما اقتحمتني دهشة..، أو مفارقة..، أو تصاعدت حدَّة المقارنة بين وجهين لواحد..،
حين كان الأول من أيام السنة الجديدة..، وتكون هي في زيارتنا..، أذكر أنها كانت في الصباح الباكر تنتظرنا..، عند مدخل المعبر الذي نلج منه لحيث نتاول الفطور..، ومن ثمَّ نتجه للمدرسة، بإناء الحليب تصبِّحنا مرات..، حتى قبل أن نبدِّل ملابسنا..، إن وجدت لذلك سبيلا...، جدتي لأمي كانت تفعل ذلك، وكنتُ لا أرحمها من وابل الأسئلة..، حين أعود من المدرسة..، ويكون في ذلك اليوم طيفها رفيقي على مقعد الفصل...، وسرب من الأسئلة يحتويني: لماذا تفعل ذلك جدتي..؟ وما علاقة الحليب الأبيض البارد بأول يوم في السنة الجديدة..؟ لكنها كانت تضيق بأسئلتي..، حين كنت أضيِّق عليها الخناق بها..، وأطلب منها أن تريني اليوم الجديد تماماً كما أرى الحليب في كأسه..، حتى أؤمن أن هناك يوماً يختلف..، وله سمة الجدة..، وأنه غير اليوم الذي انتهت به السنة الماضية بساعات..، إذ ما كنت أرى فوارق الزمن بمثل ما تراه جدتي..، ولا كنت أدري كيف أفسر اختلاف رقم عن آخر..، في عدد أرقام عام مضى، فزيد عليه رقم واحد لينتقل لخانة أكبر.. ولزمن أوسع..،
جدتي برهافتها، ورقة نفسها، وهدوئها، بصوتها الذي لا يكاد يعلو، تربِّت بدءاً على كتفي..، وهي تطلب مني مغادرة حجرتها لحيث أسترجع واجباتي..، مع لزمتها الأخيرة بأن عليَّ أن أكفَّ عن الأسئلة (بطِّلي لقافة)..، هذه اللقافة كانت لي سلمة في ليلي ونهاري..، أحاول أن أرقى عنها لما وراء الزمن، لما خلف الرقم الإضافي، لما تعنيه دولبة الأيام ومرورها، حتى أوشكت أن أزجَّ بجدتي بين حيرة، وغضب حين سألتها ذات يوم: أريد أن أسمع صوت الوقت، أو اليوم، أو السنة..، وما كنت أعلم أن الأيام مدرسة كبيرة، كلما تعاقبت مضت، وكلما مضت انتهت، وكلما انتهت أعلنت، وكلما أعلنت، ترقبنا، وكلما ترقبنا استلهمنا طيات الذاكرة، وكلما فعلنا فزعنا، وكلما فزعنا صغرنا..، وركضنا نستلهم الذي فات..
فالإنسان يصغر أمام صدق ما سجّل في أيامه..، لكنه كلما تلمس في داخله نبضة شعور برحمة من بيده الأيام..، ومواقيت ساعاتها..، ولحظاتها..، كلما فتحت له منافذ أمل..، كلما اقترب أكثر من مدلول الرقم الذي سيضاف غداً لعام جديد..
جدتي الآن تنعم إن شاء الله في رحمة الله..، بينما أستعيد وجهها النوراني..، وهي تسقيني قطرات الحليب..، تزج معها الأمل في أن تكون أيام السنة الجديدة نقية..، بيضاء..، خالية من مفاجآت الخوف..، و الشر، يسيرة في مجراها..، صافية في عطائها..، واضحة في خطاها..
فكوب من الحليب في صباح الغد..، أهديه لكم..، لتكونوا في أيام بيضاء من عامكم الجديد..، لا يخالطها دكنٌ..، ولا تشوبها مخافة..، بريئة كما الطفولة بعذوبة الفطرة.