رغم أن نهاية العام 2007 شهد بداية الأزمة المالية العالمية إلا أن العام 2008 شكل مفصلا قاسيا ومريرا بالاقتصاد العالمي سيحفر بذاكرة التاريخ وستصبح أحداثه قاعدة منهجية للباحثين الاقتصاديين مستقبلا فقد خسر الاقتصاد العالمي ترليونات الدولارات بأسواقه المالية نتيجة انخفاض البورصات بشكل سريع ومريع وإفلاس عشرات المؤسسات المالية العريقة التي أفلت بعضها من أزمة الكساد العظيم كليهمان برذرز الذي مسح تاريخا امتد لمائة وثمانية وخمسين عاما بهذه الأزمة غير المسبوقة بشكلها وحجمها ويبدو أن أيام هذا العام كانت طويلة ومملة، ولم تشأ أن تنتهي عند حدود أسواق المال وسقوط أعمدتها المالية بل تجاوزتها إلى الاقتصاد الحقيقي لتدخل كبرى الدول العالمية اقتصاديا كأمريكا قائدة الأزمة وأوربا واليابان بركود اقتصادي لم يتحدد عمقه إلى الآن، والتخوف قائم من أن يتحول إلى كساد مرير فالأزمة التي بدأت شرارتها من وول ستريت شكلت منعطفا مهما بالنظام الرأسمالي فقد أفلس 20 بنكا استثماريا بأمريكا مما ضرب الثقة بالنظام المالي واضطر الفيدرالي الأمريكي لضخ أكثر من 700 مليار دولار فيه نظرا لشح السيولة وفقدان الثقة بالأسواق مع تخفيض مستمر للفائدة إلى أن وصلت لمستوى الصفر وقامت الحكومة الأمريكية بإطلاق خطة إنقاذ بقيمة وصلت إلى 700 مليار دولار واشترت حصصا بالبنوك التجارية بخلاف شركات التأمين والرهن العقاري، وتحاول الآن إنقاذ صناعة السيارات من الهلاك.
وارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات كبيرة تصل إلى 7 بالمائة ويتوقع أن تصل إلى 12 بالمائة العام القادم، ولم يعد هناك حديث إلا عن الاقتصاد. ووصف الرئيس بوش حالة الاقتصاد الأمريكي بالخطيرة جدا بل وأثرت هذه الأزمة على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية ولعبت دورا بفوز الديمقراطيين، وفي أوروبا أفلست بنوك بريطانية وتعثرت بنوك أخرى بفرنسا وألمانيا وغيرها وضخت أوروبا قرابة 500 مليار دولار بنظامها المالي وأعلنت عن خطة إنقاذ بقرابة 350 مليار دولار مع تخفيض مستمر بأسعار الفائدة فيما أعلنت اليابان عن نهاية دورة نمو اقتصادي كاملة وضخت مئات المليارات بأسواقها وأعلنت عن أكبر ميزانية بتاريخها قاربت تريليون دولار لتحفيز النمو الاقتصادي، وبدأت شركات اليابان العملاقة بصناعة السيارات والالكترونيات تتحدث عن خسائر متوقعة نتيجة الأزمة العالمية وانكماش الأسواق الذي أدى لتراجع كبير بمبيعات الشركات وانخفاض بنمو الإنتاج الصناعي فاق 8 بالمائة ولم يعد التضخم هما للدول الكبرى فالسياسات النقدية حاولت إنقاذ ما يمكن إنقاذه بجرأة غير مسبوقة لضخ السيولة وتخفيض سعر الفائدة، وشهد هذا العام ارتفاع نسب التضخم عالميا جراء ارتفاع أسعار السلع الأولية إلى أرقام غير مسبوقة فالنفط وصل إلى مستويات 147 دولار مما جعل الدول المستهلكة تلقي المسئولية على عاتق الدول المنتجة التي نفت ذلك عبر العديد من المؤتمرات والقمم ملقية هي بدورها اللوم على المضاربين بالدرجة الأولى وخلال النصف الثاني من عام 2008 الذي شهد أعلى سعر للنفط منذ استخراج أول قطرة منه هبط السعر إلى مستويات كان عليها قبل قرابة خمس سنوات لتتبدل أحوال الدول المنتجة ومناخها الاقتصادي بشكل سريع ومثير ففي منطقة الخليج توقفت العديد من المشاريع وألغيت شراكات بمشاريع كبيرة كما حصل مع معادن بانسحاب ريوتينتو من مشروع إنتاج الألمنيوم وتعطلت أعمال التمويل وبدأت كبرى الشركات العقارية بإلغاء الوظائف لديها وبلغت خسائر البورصات الخليجية 520 مليار دولار ومسحت الثقة من الأسواق، وتحاول الدول الخليجية تحفيز اقتصادياتها من خلال ميزانيات توسعية تعتبر خطط إنقاذ غير معلنة على اعتبار أن تأثرها بالأزمة غير مباشر ومستفيدة من الفوائض المالية الكبيرة التي تحققت بالسنوات الخمس الماضية وقامت البنوك المركزية فيها بتخفيض سعر الفائدة وضخ سيولة بالنظام المصرفي وضمان للودائع حتى لا تصل عدوى الانهيارات لبنوكها ولكنها بدأت تستدرك حجم الخسائر المتوقعة لانخفاض أسعار البترول للعام القادم فقد قدرت التقارير الأولية أن تنخفض الإيرادات بنحو 350 مليار دولار وتكبدت الصناديق السيادية لبعض دول الخليج خسائر ضخمة لم يعلن عنها إلى الآن، أما الشرق الأدنى حيث يعول العالم كثيرا عليه لإنقاذ الاقتصاد العالمي فتبدو الأمور ليست بأحوال جيدة فالنمو الكبير بدا يصطدم بجدران الركود العالمي والتوقعات تشير إلى تراجع بنمو الاقتصاد الصيني إلى 8 بالمائة وبعض التقارير تتحدث عن 5 بالمائة وستضخ الصين قرابة 600 مليار دولار خلال سنتين للمحافظة على معدلات النمو التي اعتادت عليها.
أما في الهند فتراجع النمو أصبح واقعا وكذلك الحال بالبرازيل وغيرها من الاقتصاديات النامية وتعلو صيحات الأمم المتحدة لتذكير الأغنياء بالدول الفقيرة التي يتوقع أن تشهد واقعا كارثيا فمن المحتمل أن يبلغ عدد المحرومين من الغذاء قرابة مليار شخص فمن سيمد يد العون لهم في ظل واقع اقتصادي عالمي صعب جدا فالبرامج الإنمائية بدأت تتعطل وما من مغيث.
لقد عاش العالم أسوأ أيامه خلال العام 2008 ومازالت الأخبار السيئة هي سيدة الموقف والمؤسسات المالية الدولية تقول إن الأسوأ لم يأتي بعد ولا احد يعلم ماذا سيكون، لأن ما أفصح عنه هذا العام كارثي بكل المقاييس فلم يعد هناك شيء غير متوقع وحتى المسئولين بكبرى الدول الاقتصادية يرون الأزمة ببدايتها مما حدا بنائب الرئيس الأمريكي المنتخب للقول إن اقتصاد بلاده أسوأ مما توقع وانه بحاجة لخطة إنقاذ أخرى تقدر بثمانمائة مليار دولار وكلها من جيوب دافعي الضرائب فالقادم مذهل وإذا كان حصاد العام 2008 قاحلا إلى درجة إعلان دول كايسلندا إفلاسها فان العام القادم سيكون لكشف الحقائق عن ما خلفه الزلزال الاقتصادي الذي لم تستطع أجهزة الرصد تسجيل درجة قوته إلى الآن.