في صباح اليوم التالي.. كان عليَّ قبل الذهاب إلى (مركز الدراسات والبحوث) للقاء الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح.. أن أقوم بزيارة مجاملة للسفارة السعودية بصنعاء، تأخر القيام بها.. بسبب الاعتماد على أرقام (الاتصالات السعودية) التي تبعث بها إلى (جوالك) بهدف خدمتك في أي مدينة تذهب إليها خارج الوطن، ولكنها - وبكل أسف - أرقام لا تخدم أحداً..
فهي مشغولة طوال الوقت، وقد تورطت في الاعتماد عليها قبل سفري إلى (تعز) ف(عدن).. فلم تسعفني، ولذلك ارتأيت أن أذهب إلى السفارة مباشرة.. ودون اتصال مسبق بها، معتمداً على معرفة (العم حمود) بكل الطرق والوزارات والسفارات في صنعاء.. فلم يكذب خبراً، إذ إننا بعد أن عبرنا طريقاً وآخر.. فثالث، كنا قد أصبحنا في حومة السفارة وبنائها الضخم مساحة.. والمحاط بحراسة عسكرية يقظة ملفتة.. شيء كذلك الذي كنت أراه في (القاهرة) وهو ما جعلني - بعد أن استقبلني مدير مكتب السفير الأستاذ محمد الزهراني بترحاب وحميمية مشكورة - أن أقترح عليه عقد لقاء مشترك بين السفيرين السعودي في كل من (القاهرة) و(صنعاء).. لتبادل الأفكار والخبرات في كيفية التعامل مع زوار السفارة فيهما، فمعظم قصّاد السفارة في صنعاء.. مثلهم مثل قصادها في القاهرة: (يريدون تأشيرة للسعودية)..!
ضحك وهو يقول لي: سأنقل (الفكرة) إلى سعادة السفير عندما يعود، وهو ما يعني أن سعادته ليس في مكتبه، فمتى جاء؟ ومتى خرج.. والساعة لما تبلغ العاشرة صباحا؟! وعهدي بالسفراء.. لا يأتون إلى مكاتبهم أصلا قبل العاشرة صباحاً، أما أن يأتون ويغادرون قبل العاشرة.. فإن ذلك يحتاج إلى استيضاح منه، لأقول له وقد اختصرت أفكاري كلها في جملة واحدة: إن سعادة السفير يقدم نموذجاً ملفتاً بهذا الحضور المبكر..؟
فقال لي: إن اليمن كله يعيش (حالة طوارئ) بعد كارثة المهرة والمكلا.. ونحن هنا في السفارة مثلهم، وقد ذهب السفير إلى قصر الرئاسة لدراسة ترتيبات استقبال جسر المساعدات السعودية الجوي الذي أمر خادم الحرمين بتسييره لنجدة أشقائنا اليمنيين.
قلت مبتهجاً: وفقكم الله.. وأعانكم، ثم أخذت في جمع عباءتي وصحفي وأوراقي استعداداً للانصراف، لكن الأستاذ الزهراني.. وهو شاب جامعي في مقتبل العمر، شديد الكياسة واللباقة، اعترض بلطف استعداداتي للمغادرة، وهو يقول: يبدو أن قهوتنا لم تعجبك..؟
قلت له - وقد أدركت ما يعنيه-: على العكس، فقهوتك.. لا تقل جمالاً عن أريحيتك وكريم استقبالك، فمر لي بفنجان آخر..؟
مع الفنجان الآخر.. أخذ يعاتبني بلطفه الآسر.. عن عدم إخبار السفارة بقدومي؟ فأخبرته بعدم وجود هواتف السفارة لديَّ.. واعتمادي على هواتف خدمات (الاتصالات السعودية) التي لا توصل، ليقدم لي بطاقته الشخصية، وعليها كل أرقام هواتفه وهواتف السفارة وسعادة السفير أيضاً، لأقول له: على أية حال.. فقد جئت إلى اليمن بدعوة (شخصية) مشكورة من أخي الأستاذ محمد شاهر وكيل وزارة الثقافة والإعلام لأرى اليمن في صورته الجديدة بعد الوحدة، وها أنا الآن في مكتبك - أؤدي واجب التحية لسعادة السفير الأستاذ علي الحمدان الذي لم ألتق به من قبل، وللسفارة، والعاملين فيها الذين أتمنى أن يكونوا مثلك.
قال بلطفه الجميل: بل.. وأحسن، ثم أضاف: من المؤكد أن سعادة السفير سيتصل بك فور عودته من (الرئاسة) لأودعه وزملاءه.. مستحثاً (العم حمود) في الإسراع بي وبأخي وليد إلى (مركز الدراسات والبحوث اليمني) للقاء رئيسه ونجمه الدكتور المقالح.
***
كان مبنى (المركز) داخل فناء تكسو داخله الأشجار، بسيط وأنيق ومن دور أرضي واحد.. لكن مشع، ولا أدري لِمَ.. أو كيف، وقد بدا لي مزدحماً بأعداد ملحوظة من الناس.. معظمهم - إن لم يكن جميعهم - أدباء وشعراء وباحثون أو دارسون ممن جذبتهم شخصية الدكتور المقالح.. فأرادوا أن يتتلمذوا على يديه، وعلى (المركز) وما يقدمه من دراسات وأبحاث، وما يعقده من ندوات فكرية وثقافية.. أو ليلتقوا ويتعرفوا على تلك النخب التي تقصده من شرق العالم وغربه، إذ لا أظن أن أحداً من أدباء العالم ومفكريه وصحفييه.. يزور صنعاء إلا ويبدأ أو ينتهي بزيارة ذلك (المركز) العتيد، الذي تفرغ له الدكتور المقالح.. بعد سنواته الطويلة المثمرة في رئاسة جامعة صنعاء.
عندما شققت طريقي إلى مكتبه الذي لم يكن بعيداً كثيراً عن مدخل المركز، وضمنا عناق أخوي تعويضي طويل رغم قصره الذي زاد بفعل السنين.. قلت له وقد أخذت مجلسي إلى جانبه في صالونه الصغير المواجه لطاولة مكتبه: ترى كم مضى من السنين على أول مرة رأيتك فيها في صنعاء..؟
ضحك وهو يقول: عشر أم عشرون.
- أكثر من ثلاثين عاماً، لكننا التقينا بعدها مرة أو مرتين في جدة، أما هذه المرة.. فقد جئت لأجدد العهد بك، والحب لك.. أولاً، ثم أطلب منك طلباً، وأسألك سؤالاً.. ثانياً.
- وما الطلب..؟
- نسخة من كتابك الجديد: (هوامش يمنية على كتابات مصرية).. الذي صدر عن (دار الهلال) قبل شهرين، وأثارني كما أثار هذه الكتابات النقدية في الصحافة اليمنية.. التي تابعتها خلال أيامي القليلة في اليمن.. (كان الدكتور المقالح.. قد قدم في كتابه هذا قراءات لأربعة أعمال أدبية مصرية هي: رواية (الوعاء المرمري) لمحمد فريد أبو حديد.. و(مقدمة في فقه اللغة) للدكتور لويس عوض، و(الديوان) للعقاد والمازني، وكتاب (من مشاعل التقدم العربي) لأحمد بهاء الدين، وقد أثارني هذا الأمر الأخير.. فقد عُرف عن الأستاذ بهاء بأنه كاتب سياسي فذ، ومفكر قومي صلب، بأكثر منه (مبدع) يعنى بالأدب أو الفن، حتى أنني اعتبرت بأن إضافة هذا الكتاب إلى سابقيه كأنها ضرب من ضروب المجاملة للأستاذ بهاء الدين.. أو سداد فواتير حب له ولمصر، التي تربى فيها الدكتور المقالح وتعلم ونبغ حتى أصبح علماً من أعلام الثقافة اليمنية).
قال بسماحته وروحه الشفافة التي لم تتغير: سيكون الكتاب بين يديك مع انتهاء جلستنا.. هذه، فما السؤال؟
- عن قصيدة (الحضراني) في رثاء الأمير إبراهيم حميد الدين.. الذي مات في سجن الإمام مع زملائه، التي لم أقرأ ولم أعرف غير مطلعها الرائع والجميل: (عليك وإلا.. فالبكاء حرام/ وفيك.. وإلا فالدموع آثام).. وما زلت أبحث عن بقيتها...؟
قال لي مصححاً: القصيدة ليست للحضراني ولكنها.. للحاضري، وهي موجودة في ديوانه الذي طبع مؤخراً.. وسأوصله إلى فندقك في وقت لاحق.
عند وداع الدكتور المقالح.. كنت أتأمله بحب، وتمنيات بأن يحفظه الله لليمن وللثقافة العربية، فبدت لي ملامحه السمحة وقد تمازج فيها الهدوء بالكبرياء، والوداعة بالتسامي.. يغلف كل ذلك حالة تأملية عميقة راضية.. بعض الرضا، قلقة.. بعض القلق.
في عربة (العم حمود).. وفي طريقنا إلى غداء في أحد (مطاعم الشيباني) اليمنية التقليدية الرائعة التي تعلقت بها.. والذي سيكون الأخير لي في صنعاء، كان سعادة السفير.. يرحب بي - على الهاتف معتذراً - عن عدم وجوده أثناء زيارتي للسفارة، ويسألني التعويض عنها بقبول دعوته على الغداء يوم غد.. فقبلت شاكراً تفضله بالاتصال، وتكرمه بهذه الدعوة، دون أن أعرف أن مغادرتي لصنعاء سوف تكون الثانية ظهراً.. وأن عليَّ والحالة هذه - بالتواجد في المطار قبل الإقلاع بساعة على الأقل وهو الأمر الذي حملني وبأسف بالغ.. على الاعتذار لسعادته بعد ذلك، لأغادر صنعاء.. دون أن أراه.
***
عندما أهل المساء.. كان عليّ أن أذهب إلى (اللقاء الثالث) والأخير مع الصحفي الأستاذ سيف محمد أحمد، صاحب ورئيس تحريري (الشموع) و(أخبار اليوم).. الأهليتين والمعارضتين، في داره الصحفية على أطراف صنعاء.
ورغم الظلام الذي كانت تغرق فيه الشوارع المحيطة بالمبنى (فالكهرباء لما تصل بعد إلى تلك الأطراف)، وبقايا تجمعات الأمطار التي هطلت يوم أمس.. إلا أنني أحسست طريقي وحاذرت ملامسة تجمعات المياه بمساعدة أخي وليد.. سعيداً بأن يكون لهذه الدار الصحفية (الأهلية) مبناها المستقل، والذي فاجأني.. بأنه يتكون من خمسة طوابق تضم الأقسام الصحفية المختلفة (تحرير، وكالات، جمع، تصحيح، تصوير.. إلخ)، التي كان عليّ أن أزورها وألتقي فيها بقية العاملين بعد أن انصرف معظمهم عند الخامسة عصراً، فكان عليّ -بالضرورة- أن أرتقي تلك الأدوار واحداً واحداً، وصولاً إلى الدور الخامس.. حيث (مقيل) الأستاذ سيف الذي شاء أن يلقاني فيه.
بعد رشفات من فنجان الشاي الذي تم تحضيره لي شخصياً خارج طقس (المقيل) ومكوناته.. بينما أحد كبار صحفيي الدار (الأستاذ العوهلي) ما زال يعلك (قاته)، ويشاركنا الحوار بمهنية صحفية غير مستغربة على تاريخه الصحفي.. أحضر الأستاذ سيف مجموعة من آخر أعداد صحيفته (أخبار اليوم)، ومجلته (الشموع) التي تحولت إلى أسبوعية بحجم (التابلويد) ك(الجزيرة الثقافية) وهو يسألني رأيي (فيهما).
ومع الحوار.. الذي أخذنا إلى محطات القلق العربي بصفة عامة، واليمني.. بصفة خاصة: من (تمرد الحوثي) إلى رفض أحزاب (اللقاء المشترك) تشكيل اللجان الانتخابية من قبل (الحكومة) وحدها، وإلى معارضي من يسمون أنفسهم ب(جند اليمن) وأخيراً إلى (القرصنة الصومالية) في البحر الأحمر وخليج عدن، كنت أقلب أعداد الصحيفتين.. اللتين أراهما لأول مرة.. فتستلفتاني منشتاتهما الحادة في نقل رأي (المعارضة)، وفي متابعاتهما للفساد الإداري ورجاله، ليستقر رأيي.. حينها - ثم تأكد لي بعد أن قرأت الأعداد التي صحبتها معي- بأنني أمام صحفي يمني معارض ذي أرضية إسلامية صافية، وفكر قومي راشد، وأمام صحافة وطنية خالصة.. وإن كانت عالية النبرة في معارضتها وتتبعها لأوجه الفساد.. الذي قاد الأستاذ سيف لتحقيقات النيابة معه مرات ومرات.
في ختام تلك الجلسة الحميمية.. كنت أهنئ الأستاذ سيف على جهوده الخارقة في إصدار طبعتي (أخبار اليوم) في كل من صنعاء وعدن في وقت واحد، وأبارك له خطوته في تحويل (مجلة الشموع) إلى صحيفة تابلويد أسبوعية سياسية؛ لأن الزمن لم يعد زمن مجلات أسبوعية، ولكنه قد يكون زمن المجلات الشهرية والفصلية؛ حيث تجد صحافة القيمة السياسية والاقتصادية والثقافية مكاناً يليق بها وبقرائها وإن قلوا. شيء كمجلة (غيمان) الفصلية الثقافية الراقية التي تصدر عن (مركز الدراسات والبحوث اليمني)، مع حثي له بالعمل مع كبريات الصحف والمجلات ودور النشر اليمنية.. لإنشاء شركة للتوزيع، تريحه وبقية الصحف.. من عناء التوزيع ومسؤولياته.. مشفعاً ذلك بتمنياتي له بالثبات في وجه (النيابة) التي تطارده من يوم ليوم.. ومن أسبوع لآخر.
***
في ضحى اليوم التالي.. كنت أحزم حقيبتي، وأجمع أعداد الصحف والنشرات التي جاءتني، والكتب التي أهديت إليّ.. في حقيبتين أخريين.. لأسير بهذا الرتل من الحقائب وعلى غير العادة إلى المطار، لأعانق أخي وليد و(العم حمود) مودعاً.. بينما كان الأستاذ محمد شاهر.. يبعث إليّ -على هاتفي- بأحر دعواته بالوصول سالماً إلى جدة.. وب(العودة) ثانية إلى اليمن ذات يوم قريب.عندما ارتفعت الطائرة في الجو، وأطللت من نافذتها على (صنعاء) مودعاً.. كان شيئاً كالدمع يترقرق في داخلي، لأخاطبها.. قائلاً: ما أجملك.. يا صنعاء، وما أكثر أحلامك وهمومك وتحدياتك..!!
لأخلو بنفسي بعدها وقد صمت كل شيء حولي إلا من أزيز الطائرة.. في محاولة لحصر تلك التحديات والأحلام، فهما (الوجهان) فيما بدا لي.. إجمالاً: لطول مشوار اليمن وقصر خطواته.. لاتساع أحلامه وضيق ثوبه..!!
فهي تكمن في ضعف تحويل خطط التنمية.. أمام كثرتها في محافظات اليمن الواحدة والعشرين، وفي بطالة المليون والسبعمائة ألف عامل: الذين عادوا إلى اليمن بعد الاحتلال العراقي للكويت، وفي غياب البنى التحتية عن كثير من مديريات تلك المحافظات، وفي نسبة الأمية التي ما زالت رغم جهود الثورة فدولة الوحدة.. تبلغ ستين بالمائة في واحدة من أكثر محافظات اليمن تقدماً.. وأعني بها (تعز).
وهي تكمن.. في وجهها السياسي المقابل: في أزمة الاقتتال على كراسي الحكم، وفي أزمة الصراع بين (الديمقراطية) و(بقايا القبلية) المتجذرة في الأرياف والمدن الصغيرة، وفي أزمة الهجرة الصومالية الظالمة ل(اليمن) بحكم موقعه الجغرافي المواجه للشواطئ الصومالية في خليج عدن: فإن رفضهم، أتهم في عروبته، وإن قبلهم.. ناء كتفه بحملهم، وفي هذه القرصنة الصومالية البحرية الطائشة.. التي لا تدري أي كوارث جديدة قد تأتي بها إلى المنطقة..!!
ولكن، ومع كل ذلك.. لا أجد ما يقلقني أو يخيفني على (اليمن) ومستقبله بعد أن صوت بأكثريته على (دستور) الوحدة، وبعد أن أقام مجلسيه للنواب والشورى، وبعد أن أقام قضاءه على مرجعيتي (المحكمة العليا) و(المحكمة الدستورية)، وبعد أن أطلق الحرية لصحافته.. لتقول ما تراه، أو تعارض به خدمة لليمن.. حتى وإن واجه أمثال أخي الأستاذ سيف تحقيقات (النيابة) التي تلاحقه.
***
مع آخر فنجان قهوة.. جاءتني به المضيفة اليمنية.. كنت أسند ظهري إلى مقعدي وأقلب صفحات جريدة الثورة.. ليسعدني نبأ من مديرية (حيفان) -إحدى مديريات محافظة تعز- يقول بأن المديرية احتفلت (يوم الخميس الماضي).. بمرور عام على قرارها (خميس.. بلا قات)، لأقول متمنياً في نفسي.. ليت هذا القرار امتد إلى كل مديريات اليمن في كل محافظاته، وليته، يمتد إلى بقية أيام الأسبوع.. حتى يريح اليمن واليمنيين.
لقد كان ذلك الخبر هو أسعد خبر، وكان ذلك السطر هو أجمل سطر أقرأه في رحلتي تلك.. والتي امتدت لستة أيام.