أكتب اليوم، بعد هدوء العاصفة الحذائية، فهاهو غبار نقع الموقعة البطولية، قد أخذ يهبط على رؤوس المنقوعين بالنصر، فقد لحس أصحاب الملايين وعودهم، وحلّ الشعراء الفطاحل، قصائدهم المجلجة، فشربوها ريوقاً قبل إفطارهم، وجمع أهل الكلام منا، نثار ما كتبوا من حذائيات، فجفت ...... |
........أقلامهم، وطويت صحفهم، وتفرغنا قليلاً لتلمس هاماتنا، والتقاط أنفاسنا، وتفقد شمس الشموسة، في سماواتنا المزدحمة بتشكيلات شتى، من ألعاب فرحنا النارية. |
كان الرئيس الأمريكي (جورج دبليو بوش الابن)، قد تلقى أثناء زيارته للعاصمة العراقية بغداد قبل أسبوعين، حذفة خاطفة بفردتي حذاء، من صحافي عراقي كان يصطف مع صحافيين يسألون الرئيس في ختام جولته في العراق، وختام رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية. |
ماذا كان موقف رئيس أكبر دولة في العالم، وهو يخفض رأسه لتفادي فردتي الحذاء..؟ |
لم يزد أن ابتسم في وجه الصحافي العراقي العربي وقال: هذه هي الحرية..؟!! |
الغريب في الأمر، أن حاذف فردتي الحذاء (منتظر الزيدي)، كان قبل خمس سنوات فقط، من المهللين لهذا الرئيس، ومن الشاكرين له أن لبّى نداء الحرية للشعب العراقي، فأنقذهم من نير الظلم والاستعباد الذي كانوا يرزحون تحته طيلة عدة عقود، بقيادة صدام حسين، وسياسة منظومة حزب البعث..! |
والأغرب من الغريب في هذا المشهد، أن يتولى المحتلون للعراق، مهمة إنقاذ المعتدي على رئيسهم، فينتشلوه من بين أيدي رجال أمن دولته، ويحيلوه إلى المحاكمة..! |
شخصياً.. لا يهمني هنا، لا الرئيس بوش، ولا المقبور صدام، ولا منتظر الزيدي، الذي كان صحافياً فخرج بعد الحذفة حافياً. ولا تهمني حتى الحادثة نفسها، لأن المستهدف من الرمي والحذف نفسه، لم يأبه بالحادثة، ولو كان المستهدف صدام حسين، أو طارق عزيز، أو عزة إبراهيم مثلاً، لما ابتسم أحد منهم في وجه الحاذف، ولما تذكر الحرية لحظتها، لأن المسدس المتدلي من البذلة العسكرية، لا يعرف شكل الحرية، وكان سوف يتولى الإجابة بسرعة فائقة، فحادثة وزير الزراعة العراقي الأسبق، الذي وقف أمام صدام حسين في جلسة لمجلس الوزراء، وتلقى طلقة من مسدس سيادة الرئيس المهيب الركن، نقلته إلى الآخرة وهو واقف يتحدث، صورة هذه الحادثة، وبكل تأكيد، لا تغيب عن ذاكرة شعب ممرور، لم يجد أفضل من الأحذية، يرمي بها تمثال الرئيس الذي غادر بغداد إلى جحر خفي ساعة سقوطها في أيدي القوات الدولية. |
الذي يهمني في هذه الحادثة، هو طريقتنا العربية العاطفية المعتادة، في التعاطي مع هكذا فلاشات ظرفية، تبدأ صاعقة صاخبة، ثم تذوي حتى تنطفيء وترمد. تعاطينا مع الحدث بمشاعر غير منضبطة، وردود فعل ساذجة، حتى لو كان الحدث مخجلاً وتافهاً، كحالة الحذاء التي أصبحت في يوم وليلة، عنواناً لفرحنا، ومقدمة لنصرنا، وبيرقاً لبطولتنا، وشعاراً لأصلنا وفصلنا، ومحكاً لقياس عروبتنا التي لا تتأكد، إلا بخفي منتظر..! |
لم يكد خفا منتظر، يستقران عند أقدام الرئيس بوش، حتى اعتركنا واختصمنا واحتربنا، فافترقنا إلى فسطاطين، فسطاط مع الخفين، وفسطاط ضد الخفين. |
فسطاط يرى في الحادثة بطولة وشجاعة ونصراً ما بعده نصر، ويختصم لو عكّر عليه أحد فرحته بهذا النصر المؤزر الذي تحقق لهذه الأمة الذليلة، حتى ولو بالجزمة..! وحجته في ذلك، أن رئيس الولايات المتحدة، هو الذي حشد القوات الدولية لاحتلال العراق، وهو الذي حل المنظومة الإدارية للدولة العراقية بعيد سقوط بغداد، وهو الذي عجز عن قمع الخلايا الإرهابية القاعدية، التي جعلت من العراق، ميدان تدريب وتجريب لها، واستباحت دماء المواطنين العزل في هذا البلد المفكك، على أعين القوات الدولية. |
وفسطاط يرى أن الذي وقع، ليس أكثر من حمق وسفاهة وقلة أدب، فيرددون من شعرهم المحرف - وما أكثر المحرف في حياتنا اليومية: |
أغاية (النصر) أن (ترموا كنادركم) |
يا أمة ضحكت من (حمقها) الأمم |
والعرب.. العرب - بطبيعة الحال - ليسوا من هذا النوع الذي يستقبل ضيوفه بالأحذية، وليسوا من الحمقى والمغفلين، الذين يظنون أن رمية حذاء باتجاه رئيس دولة، سوف تحقق النصر على أمريكا، لأن بوش الابن ولىّ، وخلفه سائر على ما يأمره به الناخب الأمريكي والكونجرس الأمريكي، وليس ما تمليه عليه أحلام ومخيلات العرب، وربما جاء الرئيس الجديد (باراك أوباما)، بما لم يأت به الأوائل ممن سبقه، لا بوش الابن ولا بوش الأب، فلماذا هذه (الزيطة والزنبليطة)، على حذاء صحافي مغمور، أراد أن يشتهر بحذائه، ولو على حساب عقول المتعطشين للفقاعات في سماء عروبتهم..؟ وقد تحقق له ما أراد بسرعة صاروخ أمريكي، من تلك التي كان هو يرقبها بفرح، وهي تسقط على بغداد عام 2003م، فيصفق لها، ويوجه الشكر لهذا الرئيس الأمريكي المنقذ..! |
ليس بوسع أحد منا، أن يقف في منزلة وسط بين فسطاطين، فإما مع الجزمة أو ضدها، وإذا كان في هذه الأمة المأزومة في عقلها، بقية من عقل، فلها أن تدرس حالة الانفصام هذه، وأن تختبر ثقافتها من جديد، وأن تجرب مؤسساتها الإعلامية والثقافية والحقوقية، بما فيها من مراكز وجمعيات ونقابات وروابط وغيرها، فإما أن تشجب وتستنكر علناً هذه الفعلة المشينة، وأن تعتذر للرئيس الأمريكي وللمجتمع الدولي كله، وإما أن تفصح عن موقفها الحقيقي مما وقع علناً كذلك، فتقول بأن الحادثة هي من حق كل صحافي وإعلامي ومواطن عربي، وأنها حالة غير مستغربة ولا مستنكرة، فنصبح مع هذه الوضعية الجديدة، على أبواب فتح جديد، تحققه الجزمة لنا ولأجيالنا القادمة، فإذا سلمنا بأنا انتصرنا بخفي منتظر في بغداد، وهو مواطن عربي، فغداً سوف ننتصر بخفي شعبان عبد الرحيم، وخفي غوار الطوشة، وخفي فايز المالكي، ولا ننسى صاحبة شبشب الهنا..! ثم نصبح بعد ذلك، أعظم أمة في هذا الكون الفسيح، لأنا انتصرنا بالأحذية والجزم والشباشب، وهذا سلاح جديد من اختراعنا، خاصة وأننا سوف نملك بعد ذلك قوة جرّارة كرّارة، قوامها ثلاث مئة مليون جزمة، أي ست مئة مليون فردة، هذا خلاف الفكة..! ثم نضيف إلى أدبياتنا مثلاً جديداً فنقول: (كمنتصر بخفي منتظر)، لكي يدرسه من يأتي بعدنا في قيادة ورعاية نصرنا العظيم، فلا يلد الشبشب إلا شبشباً، ولا تلد الجزمة إلا جزمة، ولا تلد الكندرة إلا كندرة، ولا يُعقِب الخفين الأسطوريين، إلا ملايين (الأخفاف). بعدها يا سيدات ويا سادة: لا نامت أعين الجبناء منا، بل قرت أعين النجباء منا، ثم عاشت أمة تنتصر بخفي منتظر..! |
|