Al Jazirah NewsPaper Saturday  27/12/2008 G Issue 13239
السبت 29 ذو الحجة 1429   العدد  13239
محنة البابا بيوس الثاني عشر
روكو بوتيغليوني

مرة أخرى، تتعرض سمعة البابا بيوس الثاني عشر للتدقيق والهجوم. فقد عادت التساؤلات اللاذعة من جديد واحتدمت المناقشات بشأن بابا الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أثناء الحرب العالمية الثانية، حتى أن البابا الحالي بنيديكت السادس عشر أعلن مؤخراً أنه قد يؤجل تطويب بيوس الثاني عشر إلى أن يتم فتح وفحص محفوظات الفاتيكان عن سنوات الحرب. تُرى ما السبب وراء اتهام بيوس الثاني عشر مراراً وتكراراً بأنه كان شبه شريك لألمانيا النازية، رغم أن الكنيسة الكاثوليكية في روما كانت أثناء فترة ولايته البابوية تحمي وتخبئ الآلاف من اليهود؟ الحقيقة أن هذا أحد أشد الأسئلة التاريخية تعقيداً في عصرنا.

ظل بيوس الثاني عشر لسنوات عديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية يحظى بقدر عظيم من الشعبية، حتى بين أفراد الجاليات اليهودية. ثم انقلب التيار أثناء الستينيات، بعد نشر مسرحية رالف هوكوث (النائب)، والتي شكلت نقطة الانطلاق للتحقيق المحموم في سمعة بيوس الثاني عشر.

ولكن لكي نفهم كيف بدأ التشكيك في سمعة بيوس فيتعين علينا أن نقرأ مسرحية هوكوث ضمن سياق الاضطرابات الاجتماعية والثقافية الكبرى التي نشأت في الستينيات. كان اليسار الألماني يرغب آنذاك في تغيير تفسير التاريخ الألماني الذي تأسست عليه ألمانيا الغربية الديمقراطية الرأسمالية والتي بنيت على يد المستشار كونراد ادناور.

ولقد رأى ذلك التفسير الفظائع التي ارتكبتها الاشتراكية القومية في أيام هتلر باعتبارها نتيجة للردة في ألمانيا. أثناء عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين انهارت القيم المسيحية التقليدية والثقافة الألمانية تحت وطأة إيديولوجيتين ملحدتين: الشيوعية والنازية. ولقد ساهمت كل منهما في تدمير جمهورية فايمار، بوصفها كيانين أشبه بتوأم الشر اللذين كان كل منهما يكره الآخر، رغم اشتراكهما في كراهية المسيحية والديمقراطية.

أما التفسير الجديد الذي جاء مع حركة الشباب الألمان المتطرفة في العام 1968 فقد زعم أن عهد هتلر لم يكن يشكل انفصالاً حاداً عن التاريخ الألماني، ولكنه كان بمثابة استمرار له. والاتجاه الوحيد في الثقافة الألمانية الذي لم يؤد إلى الهاوية الروحانية النازية - طبقاً لهذا التفسير المتطرف الجديد - كان الماركسية. ليس الماركسية المتحجرة التي اعتنقتها الجمهورية الديمقراطية الألمانية بطبيعة الحال، ولكن الماركسية (الانتقادية) الجديدة التي اعتنقتها شخصيات مثل هربرت ماركيز. وبالنظر إلى تشويه الحقائق الكامن وراء هذه الرؤية، فمن السهل أن نفهم كيف اعتبر أنصار هذه الرؤية بيوس الثاني عشر حليفاً لهتلر.

وعلى نفس الأساس نستطيع أن نفهم كيف اعتبر إدناور اشتراكياً قومياً. صحيح أن بيوس الثاني عشر لم يشجب النازية أثناء الحرب. ولكن سلفه البابا بيوس الحادي عشر كان قد فعل ذلك في منشور بابوي.

كما أدان بيوس الحادي عشر الشيوعية في منشور بابوي آخر. وعلى هذا فإن التعاليم الكنسية كانت واضحة وضوح الشمس فيما يتعلق بوصفها لشرور النازية.

لماذا إذن لم يكرر بيوس الثاني عشر إدانة الاشتراكية القومية أثناء الحرب؟ للإجابة على هذا السؤال يتعين علينا أن ننظر إلى الموقف بعين الرجل الذي قاد الكنيسة الكاثوليكية أثناء تلك السنوات.

والحقيقة أنها نظرة مختلفة تمام الاختلاف عن نظرتنا. في نظر المراقب المحايد أثناء الأربعينيات، كانت الحرب في الأساس حرباً شنتها النازية على الشيوعية. وكانت أوروبا هي الغنيمة. والحقيقة أن الديمقراطيات الغربية، كما يقر بذلك أغلب المؤرخين الآن، لعبت دوراً ضئيلاً نسبياً في الصراع العسكري المهول.

وكان البابا يعتقد أنه كان عليه إما أن يدين هاتين القوتين الشموليتين أو لا يدين أياً منهما. ولكن أي إدانة من جانب بيوس للشيوعية كانت لتتلقفها الدعاية النازية لدعم جهود هتلر الحربية.

وكانت إدانة النازية قد تُفَسَّر عن طريق الخطأ باعتبارها هجوماً ليس ضد النازية، بل ضد ألمانيا في صراع الحياة أو الموت الذي كانت تخوضه ضد نظام ستالين الشيوعي. إن أقل القليل من أهل الفاتيكان - بل وأوروبا بالكامل - كان لديهم أي معرفة حقيقية في تلك الأيام بالقوة الصناعية العاتية التي كانت تمتلكها الولايات المتحدة. وحتى هؤلاء الذين كانوا يعلمون أي شيء عن القوة الأميركية، كانوا يرتابون في أن الأميركيين قد يقبلون تحمل المخاطر والتكاليف المترتبة على دفاعهم عن أوروبا ضد الشيوعية بعد هزيمة ألمانيا النازية.

ولم يكن بوسع أحد أن يتصور أن اختراع القنبلة الذرية من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة تلك الميزة العسكرية غير العادية التي جعلت من الدفاع عن أوروبا فكرة معقولة ومقبولة لدى الرأي العام الأميركي. كان بيوس الثاني عشر البابا ولم يكن نبياً.

وهو لم يكن على علم بكل ذلك ولم يكن بوسعه أن يعلم به. كيف إذن كانت رؤية البابا أثناء سنوات الحرب؟ كان بيوس الثاني عشر محباً للثقافة والحضارة الألمانية، ولكنه رغم ذلك كان مناهضاً للنازية.

وكان يرجو لو كان في الإمكان فصل ألمانيا عن النازية، وتدمير النازية دون تدمير ألمانيا، والحفاظ بالتالي على تلك الأمة العظيمة باعتبارها حصناً ضد الاتحاد السوفييتي. كانت هذه على وجه التحديد الرؤية التي اعتنقها الوطنيون الألمان الذين شاركوا في مؤامرة محاولة اغتيال هتلر في العشرين من يوليو/ تموز 1944م.

ولقد دفع أغلبهم الثمن من حياتهم، وهم الآن يكرمون في الغرب نظراً لشجاعتهم واحترامهم لمبادئهم. أما بيوس فقد أدين على نحو يكاد يكون عقائدياً. كانت ألمانيا كلاوس فون شتوفينبرغ، وليس ألمانيا هتلر، هي التي أحبها بيوس الثاني عشر.

والحقيقة أن الدبلوماسيين البابويين لم يعلموا بالمؤامرة التي كانت تحاك ضد هتلر فحسب، بل لقد سعوا إلى الوساطة بين المتآمرين وقوى الحلفاء. كان الأمل في كسر شوكة القوة النازية وحماية ألمانيا في الوقت نفسه من مصير الدمار الشامل وإراقة الدماء الذي كان ينتظرها أثناء الأشهر الأخيرة من الحرب أملاً نبيلاً، حتى ولو تبين في النهاية أنه لم يكن أملاً واقعياً. وإذا كان بيوس قد أخطأ حين خالجه ذلك الأمل، فلا شك أنها كانت خطيئة نبيلة.

روكو بوتيغليوني وزير الشؤون الأوروبية الإيطالي
السابق، وهو يعمل في الوقت الحالي أستاذاً للقانون بجامعة القديس بيوس الخامس في روما.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008 .
خاص بالجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد