لم أجد مادة كُتب عنها أكثر من (الحذاء) الشهير الذي قُذف به الرئيس الأمريكي المغادر للبيت الأبيض قريباً، انهالت الكتابات تشجع وتؤازر هذه الضربة الصاروخية وفكرتها الجهنمية من مواطن عراقي لمحتل أرضه؛
فما دخلنا نحن لنفرح ونشجع هذه الضربة ونعتبرها حدثاً قومياً يحتفل به من المحيط إلى الخليج؟ لست أدري، وأتمنى أن أدري متى يحين الوقت كي نرتفع فوق مستوى الأحداث الفردية التي يقوم بها أفراد لهم مبرراتهم التي ربما تتفق أو تختلف مع مرئياتنا للأمور، ومتى نرى أن المشكلة لن تحلها فردة حذاء لصحافي ثائر من أجل أرضه أو من أجل قضية هو - هو وحده يؤمن بها -.
أعود لأسأل: متى يأتي الوقت الذي يكون الحل فيه لأي مشكلة حلاً جمعياً متفقاً عليه من جميع الأطراف؟ ومتى يعلو الصوت الذي يشجع الحركات الشعبية الجمعية أو الحكومية التي تؤيد الحركات الشعبية بل تدعمها لا أن تتنصل منها بل تحاربها، هذا الفصام الفكري السياسي بين الشعبي في مقابل الحكومي خلق بدوره تيارات مع وضد الحكومات العربية، بل إن الكثير ينظر دائماً بعين الريبة تجاه أي قرار حكومي رسمي، ويعتقد أن ما تتم حياكته من وراء الكواليس دائماً ضد الرغبات الشعبية التي سرعان ما تفرح لخروج تظاهرات رافضة من قبل أن تفهم أو تفند أو تحلل ما تم اتخاذه من قرار ربما استغرق شهوراً في التحليل من أوجه عدة، حتى ولو كان هذا القرار المفترض خطأً.
ربما يفرح الشارع إذا علم أن الوزير الفلاني انقطع الماء عن بيته لمدة ربع ساعة مثلاً، بنوع من الشماتة؛ لأنه من المتوقع أن يأتيه كل شيء على خير وجه وأتمه؛ الماء والكهرباء وباقي سبل المعيشة التي ربما يحلم بها كثير من الجائعين الحالمين برغيف خبز ربما دفع البعض ثمنه من دمه فمات وهو واقف في أحد هذه (الطوابير)!
المهم.. ذكرني ما كتب عن فردة الحذاء المرمي بها بوش بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، من ناحية الكم الرهيب الشامت في هذا الحادث الرهيب، مع الفارق طبعاً في ضخامة الحدث من انهيار مبنيين كبيرين وموت أكثر من خمسة آلاف شخص من جراء السقوط، وفردة حذاء مصوبة تجاه الرئيس الأمريكي المغادر قريباً.. وجه الشبه فقط في الكم الرهيب من الكتابات الصحافية والحلقات الفضائية التي راحت تبارك هذا الفعل الذي دخل التاريخ ليكتب في سطر واحد، لن يكتب طبعاً على أنه إنجاز عربي، ولن يكتب على أنه مجد وفخر لا بد أن يُدوَّن في طوابير الصباح يردده الطلاب العرب من المحيط إلى الخليج.
أزمتنا أكبر (بكثييييييير) من فردة حذاء، وأكبر بكثير من رئيس مغادر وآخر نعلق عليه آمالاً من المؤكد أن أغلبها سيذهب أدراج الرياح.. هكذا تعلمت من قراءة التاريخ البسيطة.
وتعلمت أيضاً أن المنجزات لا تصنعها الأحذية بل تصنعها العقول المصمِّمة على إحداث معنى قادر على إحداث التغيير في الحياة من الأسوأ والحضيض الذي يحياه الفرد العربي، إلى حياة ربما تكون أفضل. والأفضلية هنا المقصود بها أفضلية حياة ونمط تفكير، أولها يبدأ من قبول الآخر وتوافر نوع من حالة الرضا التي نفتقدها الآن، وعلى جميع صُعد الحياة اليومية؛ نفتقر إلى الشعور بنوع من الأمان تجاه الغد في ظل التهديد اليومي باستعمال أسلحة الدمار الشامل في أي بقعة من العالم التي ستهدد أول ما ستهدد الشعوب الفقيرة، علمياً وتقنياً، وتحذيرات من القنابل القذرة التي تحمل مواد مشعة تقتل المئات والعشرات ويبقى أثرها سنين طويلة أو حتى الكساد الاقتصادي الذي بدأت تلوح أفقه.
المشكلة لن تحلها فردة حذاء، مهما كان مقاسها، ومهما كانت شخصية المضروب بها أو حتى الضارب.. مشكلتنا العربية أعقد بكثير من الحل في قاعة من القاعات المغلقة والالتفاف حول الموائد التي تحمل ما لذ وطاب من الطعام والشراب لنحل مشكلة (الجوع) في دول العالم الثالث.
المشكلة تكمن في المواجهة الحقيقية للمشكلة، هل لدينا القدرة على الاعتراف بأننا صرنا في ذيل القائمة الحضارية، وأنه لا مستقبل لنا جميعاً بغير اللجوء إلى العلم المعملي والأخذ بكل أسباب التقدم العلمي، أم لا؟
المشكلة تكمن في أننا دائماً في انتظار مَن يحل المشكلة من الخارج، ولا نبحث داخل أنفسنا عن الحل الحقيقي، نعرف أننا نفتقر إلى مراكز البحث العلمي الحقيقية، ونصرخ في الفضاء: لا بد من إعطاء مراكز البحث العلمي الأولوية في قائمة الأولويات، ولا أحد يسمع، نعرف أننا نفتقر إلى تعليم يتفق مع آليات العصر التقني الحديث الذي نعيش فيه، ونعرف أن التعليم من المحيط إلى الخليج يعاني، وسيظل يعاني طالما توقفنا عن اللجوء إلى التفكير العلمي الذي أعتقد أن المسألة كلها عبارة عن (منظومة) متكاملة، وإذا أردنا الإصلاح الحقيقي فلا بد أن نرى أبعاد هذه المنظومة الحضارية؛ لكي نبدأ من جميع نقاط الارتكاز لها، لا أن يعمل كل في حقله بعيداً عن النظر إلى ما سيفيد في النهاية الوصول إلى القمة في هذا الحقل؛ إذن لا بد من العمل على صياغة أسلوب عمل متكامل يقوم عليه خبراء حقيقيون همهم الرئيس العمل لا الالتفاف حول الطاولات للتخطيط أكثر من التفكير.
مشكلتنا الحقيقية لن تكون أبداً في شجاعة فردية لصحفي قذف حذاءه في وجه رئيس أمريكي، أو غيره، إنما تكمن في اعترافنا بأننا صرنا في أزمة حاجة تدعو إلى الاختراع؛ حتى ننتشل أنفسنا من هذا الحضيض، وأتمنى ألا أتهم بالبحث عن المدينة الفاضلة في زمن غابت فيه كل قيمة.. لكني ما زلت أرى النصف الممتلئ من الكأس؛ فربما يكون لنا درجة في السلم الحضاري، ولو بعد خمسين عاماً!
aboelseba2@yahoo.com