لكل منطقة من مناطق هذه البلاد المباركة نصيبها من (الفزعة) والشهامة، ولكن إذا أتت هذه الشهامة من حائل فبالتأكيد لها طعم مختلف، فبلاد حاتم طي لها رصيد لا يقارب في الكرم تتوارثه الأجيال الحائلية أباً عن جد.
قبل أيام وتحديداً في إجازة عيد الأضحى المبارك، انتقلت الزحمة من الرياض العاصمة إلى الرياض النضرة قرب رفحاء وما جاورها، فللطبيعة في هذه الأيام سحر لا يقاوم، ولهذا عمدت أكثر العائلات إلى التخييم في البر، وحدث أن فقدت إحدى العائلات ابنتين صغيرتين في وقت واحد أحدهما تبلغ 12 عاماً والصغيرة 5 أعوام، ذهبتا لقضاء الحاجة وأضاعتا المخيم في لحظةٍ تشابهت فيها الأرض (فالفياض تتشابه هناك)، لذلك ساعد الهلع والارتباك تلك الصبيتين على قطع مسافات طويلة وصلت إلى 26 كم بعيداً عن مخيم العائلة وسط غياب من الدليل والناس، وقد داهم المساء تلك الصبيتين وأضفى الخوف ظلاماً آخر عليهما -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ولكم أن تتصورا مشاعر الأم والأب في مثل هذه المواقف!
وفي هذه الأثناء كان أحد شباب حائل واسمه (أحمد بن فهد الفوزان 22 عاماً) يصلي المغرب وهو في طريقه إلى رفاقة في مخيم ليس ببعيد، فلمح خيال الصبيتين فقادته الفزعة التي أشتهر بها أسلافه إلى الصبيتين وسلم عليهما دون أن يردا، فأوجس في نفسه شجاعةً وتقدم إليهما وسألهما عن حالهما فأخبرته الكبرى بالقصة وأنهما تائهتان في هذه المفازة المنقطعة عن الناس، فأحضر الماء لهما فشربت الكبرى ثلاثة قوارير ماء وغسلت بنصف الرابعة وجه أختها، وقام الشاب الشهم أحمد الفوزان بالاتصال عبر جهاز النداء اللاسلكي في السيارة بكل الموجودين معه، والفتاة ترقب ما يحدث بحذر ومنظرها يرثى له، وبعد عدة اتصالات اطمأن الشاب إلى نجاح مساعية، حيث توصل إلى والدها الذي لم يهنأ له بال بحثاً عنهما، فطمأن الشاب أحمد الصبيتين وأوقد لهما النار واكتشف أنهما غادرتا المخيم منذ الصباح وقد بلغ بهما الإعياء والخوف ما بلغ (والقصة كاملة نشرتها صحيفة الاقتصادية تحت عنوان: تعرف على والدهما عبر جهاز (الكينود) وحدد له الموقع، شاب يعثر على فتاتين تائهتين في صحراء رفحاء وينقذهما من الهلاك، في يوم الأحد 35 ذو الحجة 1429هـ. الموافق 03 ديسمبر 2008).
وطبعاً بعدما تعرف إلى والد الصبيتين عن طريق أجهزة النداء انتظر بعد أن قام بواجب الكرم والضيافة على طريقة أهل الرحلات البرية وبعد وقت ليس بالطويل حضر والد الصبيتين معتمداً على الإحداثيات التي أخذها سلفاً من الشباب عبر الأجهزة، وكان اللقاء المرتقب الذي أثر في نفسية الشاب أحمد، بين فتاتين تائهتين ووالدتهما ووالدهما، من المؤكد أن المشهد تعجز عن التقاطه أعتى كاميرات السينما ويتقزم أمامه أبرع الرواة والمؤلفين.
والحقيقة أن الشاب أحمد الفوزان -وأنا لا أعرفه مطلقاً- ليس بحاجة إلى ثنائنا، فالموقف الذي قام به يعكس أخلاقه وتربية عائلته الشهيرة في حائل بالكرم والشهامة، وطبيعة الشباب السعودي متقاربة من حيث الشهامة خصوصاً أهل البر الذين يبتعدون عن ملوثات المدينة، وكعادة العائلات السعودية أيضاً فقد جاهد والد الصبيتين في مكافأة الشاب وألح عليه بصنوف الكرم ورد الجميل كما ورد في القصة ولكن الشاب أكد أن ما قام به هو الواجب، (فبيض الله وجهك يا أحمد وأكثر الله من أمثالك).
ورغم تقدم التقنية وكثرة الأجهزة التي تصل الناس بالناس إلا إن الصحراء تظل غادرة كالبحر تماماً لا أمان لهما، فهل نعي مثل هذه الدروس، ونتسلح بأجهزة التقنية في هذه المناطق التي شهدت حالات ضياع ووفيات وافتراس من الذئاب؟
بقي أن أقول أن شهامة الشباب السعودي ليست بحاجة إلى دليل، فقبل أيام طالعتنا الصحف بخبر تكريم أمير منطقة الرياض للشاب الذي أنقذ فتاة خطفها سائق ليموزين من أحد الأسواق، فهل ننتظر تكريم أمير منطقة حائل للشاب أحمد فهد الفوزان على هذا الموقف النبيل.
Mk4004@hotmail.com