لقد أمر الشرع ببر الوالدين وجعله بعد رتبة توحيد الله لما يبذله الوالدان من جهد وتعب في سبيل الأبناء، ولهذا كان عقوق الوالدين مما يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
غير أن هذا مرتهن ببر الآباء للأبناء، ولكن، كم من الآباء والأمهات يعقون أبناءهم وهم لا يشعرون، وليس هذا وليد العصر، فهي ظاهرة قديمة منذ وجود الإنسان على الأرض، ولذا كان لزاماً على الآباء قبل أن يشكوا عقوق أبنائهم أن ينظروا عقوقهم لهم، وأن يؤدوا ما عليهم تجاههم، وأن يدركوا دورهم في الحياة كمسؤولين عن أبنائهم، وحين يقدم الآباء والأمهات برهم لأبنائهم سيحصدون ثمرة هذا البر إحساناً ومراعاة، وإن كانت الشكوى مريرة من عقوق الأبناء لآبائهم، فإن أول طريق الإصلاح محاولة تذكير الآباء بدورهم، ومن هنا تأتي البداية.
إن بداية التصحيح ألا يبحث الناس عن حقوقهم قبل أداء واجباتهم، فحين يقصر الإنسان في واجبه فليس من الحكمة أن يسأل عن حقه، بل إننا نطالب الآباء أن يتعاملوا مع أبنائهم لا من باب الحقوق والواجبات ولكن معاملة الفضل التي وضعها الله تعالى في نفوسهم تجاه أبنائهم، حتى تتم الصورة التي وضعها الله تعالى لهم في الإسلام، فإن تكريم الله تعالى للآباء والأمهات ليس لذات الإنجاب، ولكن لما يقومون به من تربية، فإن تخلى الآباء عن التربية، فقد أسقطوا حقهم عند الله فيما وهبهم من فضل، وإن وجب على الأبناء برهم.
إن ظاهرة عقوق الآباء للأبناء انتكاسة للفطرة، فعندما يجد الأبناء الآباء لا وظيفة لهم في الحياة، فقد يصل هذا إلى حد الكره والرفض لهم، وإن كان الله تعالى قد طالب الأبناء بالدعاء لآبائهم كما قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. فأين هذه التربية لكي يرحمهما الله؟ هؤلاء آباء عقوا أبناءهم، والعقوق هنا مختلف، فالمعروف عقوق الأبناء للآباء، ولكن ما يحدث العكس. لذلك يصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليعن ولده على بره). فالمطلوب من الأب إعانة ولده على بره؛ وإلا فإنه سيحاسب على عقوقه لولده، كما يحاسب ولده على عقوقه. ويرى بعض علماء الاجتماع وعلم النفس أن هذه الظاهرة ليست عقوقاً من الآباء للأبناء، بل هل سوء معاملة من أسبابها بعض ما ذكر سابقاً إلى جانب:
- الانفتاح على العالم في كافة الجوانب الثقافية والاقتصادية والقيمية، وهذا له أثر على ظهور أنماط وأساليب لا تتفق مع قيم آبائنا الأخلاقية. ومن هنا يأتي ما يسمى بالصراع بين الأجيال.
- الخوف الشعوري واللاشعوري، حيث يسيطر خوف الآباء من التغيرات الحاصلة في المجتمع على طريقة التعامل مع الأبناء مما يتحول إلى خوف فقدان السيطرة؛ فالشاب الذي يكبر يمكن أن يكشف عن بعض نقاط الضعف في والده الذي لم يحب أن يعرفها ابنه عنه.
- التغيرات المتلاحقة في كافة أوجه النشاط الإنساني في المجتمع وما يصاحبه من تغيرات في القيم والاتجاهات والعادات؛ فلا شك أن لهذا أثره على أداء الأسرة لدورها التربوي والأخلاقي؛ إذ إنها تواجه العديد من التيارات الفكرية التي تتناقض مع القيم التي يعمل الآباء على دمجها في شخصية أبنائهم.
- زيادة المتطلبات الأسرية نتيجة الانفتاح على العالم وتدني المستوى الاقتصادي للأسرة مما يفرض على الآباء السفر لتوفير متطلبات أبنائهم المادية وينسون أهم متطلب وهو الحاجة المعنوية للأبناء.
- خروج المرأة لمجال العمل أدى إلى تغير في توزيع الأدوار بين أفراد الأسرة؛ فبعد أن كان الأب مسؤولاً عن الإنفاق في الدور الأول والأم مسؤولة عن التربية، أصبح دور التربية يقوم به مؤسسات وحضانات؛ فبالتالي فقد الابن لغة الحوار مع أهله.
ورغم تلك الدوافع التي جعلت الأسرة تفقد جزءاً كبيراً من وظيفتها، وهي التربية، مما نتج عنه عقوق الآباء للأبناء، فتبقى المشكلة كما هي. فهل يعي الآباء الخطر الذي يحيط بهم أم يستسلمون لدوامة الحياة وعواصف العولمة التي تجتاح مجتمعاتنا، عليهم أن يختاروا، إما المقاومة وإما الاستسلام.
* عميدة كلية التربية للبنات بالأحساء الأقسام العلمية