مع مطلع العام الجديد، يأتي الاهتمام في الأمم والأفراد، وعما يأخُذُ مِنْ ذلك: الفرد والجماعة، والأمم على اختلاف مطالبهم، ولغاتهم.. فكل يتطلع من زاويته واهتمامه، مع قدوم العام الجديد، سواء في مناسبات يراد الاحتفاء بها، أو وقائع تاريخية تحتاج إلى رصد لتهتم بها الأجيال اللاحقة، أو لرصد أمور شخصية، للفرد وأسرته، كتسجيل مواليد، أو قيد كل شيء مهم، بمناسبته ووقته، وعلى المستوى المالي والاقتصادي، تخصيص بدء السنة، بما يفيد أي منشأة |
في متابعة أعمال العام المنصرم، وما به من ربح أو خسارة، حتى يبدأ العام الجديد بقيودات تنبئ عن مكانة هذه المؤسسة. وهكذا دواليك، كلّ له مع العام الجديد شأن، ومردود على عمله: مادياً ومعنوياً.. لكن القليل من البشر هو الذي ينعكس العام الجديد عليه، في محاسبة النفوس، ومتابعتها، رصداً وكشفاً، عن العام الماضي والربح أو الخسارة، والإجادة أو التقصير، في أمورهم الدينية، التي خُلقوا من أجلها، وماذا يجب أن يراجعوا أنفسهم في خلوة للمحاسبة، فيما يجب أن يحسنوه في مقتبل الأيام، من العام الجديد، أخذاً من القول المأثور (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهّبوا للعرض الأكبر على الله). |
فكل فرد: ذكراً أو أنثى، أمامه واجب، يأخذ فائدته من بدء السنة الجديدة، فقد يهتم بجانب من هذا الواجب، ويغفل عن الجانب الآخر المهم، الذي لا تبرز آثاره بصفة عاجلة، وإنما له وقت نهائي حدده الله سبحانه بقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (سورة الكهف آية 49). |
وإذا كان كل أمر من أمور الحياة، التي يسعى هذا الفرد، في مناكب الأرض ويكدّ جهده، ويتعب عقله من أجل المحاسبة فيه: ربحاً أو خسارة، جودة أو ضعفاً، ليأخذ درساً، فيعدُ نفسه، بزيادة الربح، وتحسين الجودة لأنه ظهر أمامه تحسناً يغري، ذاق معه الحلاوة والفائدة. |
أو كان الضّد من حيث الخسارة أو الضعف، فإنه يبدأ يلوم هذه النفس، ويعدها بتغيير المنهج لعله يتذوق المصلحة، التي تنعكس على وضعه الاجتماعي والمادي، سواء كان تاجراً، أو مزارعاً، أو صانعاً، أو أي حرفة تحتاج إلى جهد بدني.. ويدخل هذا ما يتعلق بشباب الجنسين ذكوراً وإناثاً، وفيما هم متهمون به: من نجاح في الدراسة، أو تشوق لمنصب، ودرجة أعلى، أو إقبال على تسنم وظيفة، أو تطلع لحياة زوجية، وبناء الأسرة الهادئة: بالنسبة للشباب والشابات.. أو غير ذلك من مشارب الحياة المتعددة، كل يحسب ما هو متعلق به؛ لأن الله سبحانه خلق البشر، وحدّد لهم مشارب متعددة، وكل ميسر لما خُلق له وهذا من حكمة الله جل وعلا في عمارة هذا الكون. |
وفي فلسفة البشر وسعيهم في هذه الحياة، لا يجب أن يفهم العاقل أنّ تعاقب الليل والنهار، ودوران الحياة المعيشية التي يلاحظها في مجتمعه، ما هي إلا أمور عفوية، فقد قال الله سبحانه، مخبراً عن الذين انصرفوا عن شرع الله، وعطلوا حاسة العقل المرتبط بالخالق سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (سورة المؤمنون 115)، وقال بعد أن بيّن سبحانه نظرة من انصرف عن الحق (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (سورة الجاثية 24) أو قول ذلك الشاعر اللاهي عن نفسه ومحاسبتها: |
ما مضى فات والمؤمّل غيب |
ولك الساعة التي أنت فيها |
وإنما الواجب، أن يكون درسه المستفاد، من العام الجديد، أن يجمع بين الحسنيين، ودلالة هذا القول المأثور (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)، وأمكن من ذلك، مما يجب أن يسترشد به المرء، قول الرّب جل وعلا: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (سورة القصص 77). |
وهذا ما يجب أن يتميز به المسلم، أن يعرف حق الله عليه، ليحافظ عليه، ويكون مقترناً بهذا الحق في وقته، سواء كان عبادة بدنية، أو إحساساً قلبياً بنية صادقة، أو ذكراً لسانياً أو إنفاقاً مالياً، مما لا يرهق البدن، أو يطغى على الحواس؛ لأن الله لا يكلف نفساً فوق طاقتها، ثم يؤدي حق نفسه بالجهد العقلي والجسماني المتلائم معه، ولا يجب أن يُغلّب حق النفس على حق الله، في الجهد والوقت والإحساس: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الجمعة 10). |
وإذا عدنا إلى التاريخ الهجري، وما كانت تؤرخ به العرب قبل الإسلام، فإن العرب، أمة أمية، لا تقرأ ولا تكتب، وإنما يؤرخون بأحداث في بيئتهم، قد تؤرخ قبيلة، بغير ما تؤرخ الأخرى؛ لأن وقائعها التي تعتبر حدثاً في كيان هذه القبيلة، لم يكن شيئاً عند القبيلة الثابتة أو الثالثة، إلا ما كان حدثاً مشتركاً، أهمّ أكثر من قبيلة.. أما مسميات الشهور، فقد تم مما يدور عندهم جميعاً، ويتفقون على دلالته. |
فالسنة عندهم أربعة فصول: الربيع والصيف والخريف والشتاء، فالربيع حار رطب، والصيف: طبيعته الحرارة واليبس، والخريف: بارد يابس، والشتاء بارد رطب، وكل فصل 3 شهور. ولأن الشعر هو ديوان العرب، فقد رصدوا في كل فصل أشعاراً توضح ما يبرز فيه، واستدلوا بالشمس على دخول كل فصل. |
ثم سموا الأشهر ما يلي: المحرم: محرّماً لأنهم أغاروا فيه فلم ينجحوا، فحرّموا القتال فيه، وسموا صفراً: لِصَفَر بيوتهم فيه منهم، عند خروجهم للغارات، وشهرا ربيع: لأنهم كانوا يخصبون فيهما بما أصابوا من غنائم في شهر صفر، والربيع يعني الخصب، والجماديان: من تجمّد الماء؛ لأنّ الماء يجمد في الوقت الذي سُمي فيه، وكان الماء لبرودته جامداً، ورجب: لتعظيمهم له، والترجيب التعظيم، وقيل لأنه وسط السنة، فهو مشتق من الرواجب، وهي أنامل الأصبع الوسطى، وقيل إن العود رجب النبات فيه، أيْ أخرجه، فسمي بذلك، وكذلك تشعب العود في الشهر الذي يليه، فهو شعبان، وقيل سمي بذلك لأنهم يتشعبون فيه للغارات، وسُمِّي رمضان: أي شهر الحرّ، مشتق من الرمضاء، وشوّال من شالتْ الإبل أذنابها إذا حالتْ، أو من شال يشول إذا ارتفع، وذو القعدة: لقعودهم عن القتال فيه، إذْ هو من الأشهر الحرم، وذو الحجة: لأن الحج اتفق فيه، فسُمي به. ومن هذه الأشهر أربعة حُرم: ذو القعدة وذو الحجة ورجب والمحرم، وقيل: إن أول من سماها بهذه : كلاب بن مرّة. |
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما اتّسعت الدولة، وتفرّقت الجيوش، لنشر دين الله في الآفاق، ثم لما كثرت الأموال، واحتاج إلى أسلوب معين لتوزيع هذه الأموال على المسلمين: رجالاً ونساء، ومهاجرين وأنصاراً، ومجاهدين وسابقين إلى الإسلام، ومن كان في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم: بدءا بغزوة بدر ثم ترتيب الأولوية في ذلك.. كان أمامه أمران: تدوين الدواوين التي تشاور فيها مع الصحابة، وكيفية التوزيع والترتيب وقد استفاد في هذا الأمر من طريقة أهل فارس، بالتدوين وتوزيع العطاءات.. فقرّ رأيه بعد التداول على تدوين الدواوين، وتنظيم سجلاتها، وتاريخ التوزيع، على اعتبار أنها سنوية، تحتاج إلى توثيق وقيد. |
والأمر الثاني: المتعلق بالمراسلات مع أمراء الأجناد في كل موقع، إذْ كانت الرسائل أولاً بيوم كذا، دون تحديد السنة والشهر، فلا يُعرف ذلك إلا بضبطه.. فاختلفت وجهات النظر أولاً ما بين التاريخ بالبعثة، أو بغزوة بدر، أو بالهجرة النبوية إلى المدينة، فغلب الرأي على الهجرة، ولما كان المحرم هو المبتدأ بعد الحج، فقد اتفق الرأي على أن يكون التاريخ بشهر محرم، في السنة التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعوا بين الحالتين. |
|
جعل الله معجزة كل نبي من أنبيائه بما هو سائد في مجتمع قومه الذين بعثه الله إليهم، في مقارنة بين ما هو محسوس بالمعقول؛ فنبي الله موسى عليه السلام بعثه الله إلى فرعون وقومه، والمنتشر في مجتمعهم السحر، فجاءهم بما فاق قومه: بالعصا واليد، في تسع آيات كلها أعجزتهم، ولم تكن سحراً وإنما هي معجزات من الله. |
وعيسى عليه السلام جاء بني إسرائيل ولديهم قدرة في الطب، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير، بإذن الله، فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويخرج الموتى من قبورهم بإذن الله. |
ومحمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله في قوم يتبارون بالفصاحة والبلاغة، فأنزل الله عليه القرآن بأفصح لغات العرب وأبلغها، وهي لغة قريش، فتحداهم أنْ يأتوا بمثله، ولو بآية فعجزوا.. والبلاغة والفصاحة موجودة عند النساء العربيات كما هي عند الرجال. |
وسوف نورد هنا نموذجاً من فصاحة النساء، أورده النويري في موسوعته: نهاية الأرب فقال: ومما يدخل في هذا الباب: ما حُكي ألا رجلاً من الأعراب تزوّج بأربع نسوة، فأراد أن يختبر عقولهن وفصاحتهن. |
فقال لإحداهن: إذا دنا الصبح فأيقظيني، فلما دنا الصبح، قالت له: قُمْ فقد دنا الصبح.. فقال لها: وما يُدريك؟ قالت: غارت صغار النجوم، وبقي أحسنها، وأضوؤها وأكبرها، وبرد الحُليّ على جسدي، واستلذذت باستنشاق النسيم. فقال لها: إنّ في ذلك دليلاً. |
ثم بات عند الثانية، فقال لها: مثل مقالته للأولى: فلما دنا الصبح أيقظته، فقال لها: وما يُدريك؟ قالت: ضحكت السماء من جوانبها، ولم تبق نابتة إلا فاحَتْ روائحها، وعيني تطالبني بإغفاءة الصباح. فقال لها: إنّ في ذلك دليلاً. |
ثم بات عند الثالثة: فقال لها مثل ذلك، فلما دنا الصبح أيقظته، فقال لها: وما يُدريك؟ فقالت: لما يبق طائر إلا غرِدْ، ولا ملبوس إلا بَرَدْ، وقد صار للطرْفِ في الليل مجال، وليس ذلك إلا من دنو الصباح. فقال لها: إنّ في ذلك لدليلاً. |
ثم بات عند الرابعة فقال لها مثل ذلك، فلما دنا الصبح قالت له: قُمْ فقد دنا الصبح، فقال لها: وما يُدْريك؟ فقالت: أبتْ نفسي النوم، وطلبني فمي بالسواك، واحتجت إلى الوضوء. فقال لها: أنْتِ طالق؛ فإنكِ أقبحهن وصْفاً. |
(نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري ص1: 146 ـ 147) |
|