استأثر التعليم في (فكر 7) بيوم حافل مثير، وكان من أكثر الموضوعات إثارة وتشويقا عرض تجربة التطوير التربوي في فنلندا (الرحلة الفنلندية نحو التميز الأكاديمي) وقد استعرض السيد ياري كوافيستو وهو مستشار تربوي للجنة الوطنية للتعليم في فنلندا، تاريخ تحول النظام المدرسي في فنلندا على مدى السنوات الثلاثين الماضية، من النظام المركزي الذي كان سببا في تخلف الخريجين الفنلنديين عن الطلاب في دول أوربا، وما ترتب على هذه التحولات من تفوق في الأداء المدرسي، وكان من أبرز نتائجه وانعكاساته الإيجابية تفوق الطلاب الفنلنديين على سواهم في بلاد العالم في الاختبارات الدولية.
وقد أشار السيد ياري في استعراضه إلى أن أول مدرسة في فنلندا افتتحت قبل سبعمائة سنة، وأن التعليم العام بدأ من حوالي مائة وخمسين سنة، وأن التغذية المدرسية المجانية تقدم من حوالي ستين عاما، وأنها تجربة ناجحة، وأن التعليم الأساسي الإلزامي بدأ عام 1970م، وأن عمليات التعليم تتم وفق جملة من القيم الوطنية تتمثل في أن: (كل طفل يعد كنزا وطنيا) وبالتالي يجب العناية الفائقة بتربية كل طفل وتعليمه وتثقيفه أيا كان موقعه، وأنه (يجب استثمار اللعب حتى سن السابعة) وأن (المعلم يعد مفتاح النجاح وصانعه) وأن (قائد المدرسة يساعد العاملين ويسهل لهم أداء مهماتهم) وعليه أن يكرس نفسه لهذا الدور، ويطور ذاته مهنيا باستمرار، وأنه يجب (احترام كل الطلاب) وأن (تشجيع الطلاب وتعويدهم على فهم ذواتهم أمر في غاية الأهمية) وأنه (يجب ألا يكون هناك طرق مقفلة أمام الطلاب في التعليم الثانوي) وأن (شهادة الماجستير الحد الأدنى للعمل في مهنة التعليم بدءا من الحضانة حتى الصف الثاني عشر) وأن (الاختبارات المستمرة تقتل الإبداع) وأنه (يجرى اختبار رسمي وطني واحد على مستوى البلاد كلها) وأن (المعلمين مهنيون، ويتقاضون رواتب عالية مجزية) (يتقاضى المعلم شهريا حوالي 3110 دولار، والمعلمة 2520) وقائمة القيم التربوية والتعليمية في الرحلة الفنلندية طويلة، ولعل فيما ذكر كفاية وفائدة.
ويستخلص من هذه الرحلة جملة من الدروس والعبر، يستفاد منها في دحض الأفكار الخاطئة التي طالما روج لها البعض ودندن عن مهمة الإصلاح التربوي، ويأتي في مقدمة الدروس، أنه لا يوجد مسار سريع لعمليات الإصلاح والتطوير، فالأمر يحتاج إلى وقت وصبر، فالفنلنديون صاغوا أفكارهم التطويرية وقضوا ثلاثين عاما وهم يتابعونها وهي تتطور في ضوء رؤية، وتصور واضح المعالم والأهداف، فالأفكار أفكار أمة وليست أفكار أشخاص، ودور الأشخاص الإيمان بها والسعي بكل حماسة وتؤدة لتفعيلها وتوطينها في ممارسات الميدان التربوي، بينما الأفكار التطويرية عند البعض هي أفكار أشخاص طالما تبخرت وتلاشت وحفظت في الأدراج بمجرد أن يتغير صانعوها ويبتعدوا عن سلطة القرار، بل قد يطعن فيها ويقلل من شأنها بغية البدء من جديد، وهكذا أفكار تواريها أفكار، وعجلة التطوير تراوح مكانها، حركة بدون بركة، وجعجعة بلا طحين.
ولهذا وحتى لا توأد الأفكار، ولكي تنطلق عجلة التطوير والإصلاح التربوي في حركة مستمرة بناءة مثمرة، يجب ألا توكل المهمة إلى أشخاص أو جهة بعينها، وإنما توكل إلى فريق يشكل من الجهات الحكومية ذات العلاقة، وأخص التعليم العالي والمالية والخدمة المدنية إضافة إلى الغرف التجارية، ويرأس الفريق شخصية اعتبارية مقدرة، ذات نفوذ وتأثير، حتى لا تجهض المشروعات والأفكار أو تعطل، بسبب استئثار شخص بعينه بهذه المهمة، وخضوعها لحالته المزاجية وتقديراته الشخصية، فإدارة الإصلاح والتطوير من قبل فريق أدعى لاستمراره، حتى ولو تغير بعض أعضاء الفريق.
إن المشروعات الإصلاحية الكبرى يجب ألا تخضع لسلطة واحدة، لأنه ثبت من واقع الممارسة أنه كلما جاءت أمة نسخت أعمال من قبلها وأهملته، وبدأت الطريق من أوله، وتناست الجهود السابقة وأودعتها أدراج الحفظ ليطويها النسيان، وفي هذا هدر للوقت والمال، وهما عزيزان لأن فواتهما لا يعوض أبدا، ولكن يبدو أنهما آخر ما نعنى به، ونحرص على استثماره، والمحافظة عليه من الهدر والإهمال.