جاء القائد المجاهد البطل الفاتح الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - غفر الله له - إلى الجزيرة العربية وهي تعيش حالة سيئة دينياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، حيث شاع فيها السلب والنهب والفقر والخوف، مع ما واكب ذلك من عصبية جاهلية وتفاخر وتناحر، وشقاق ونزاع وخلاف اختلاف عمّ وطمّ وشاع وذاع حتى أصبح أهلها شدر مدر، للظلم بينهم جولة، ولقطاع الطريق صولة وسطوة، وللبدع والخرافات والجهل ظهور ونشوة؛ الأمر الذي معه لا يأمن الإنسان على نفسه وعرضه ودينه وماله، وهذا بصفة عامة.
أما حال قاصدي الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة للحج أو العمرة أو الزيارة بصفة خاصة فهو مُحزن مُبكٍ: قتل وسلب ونهب، القوي يأكل الضعيف، تخرج القافلة المكونة من العدد الكبير إلى الحج فقد تصل إلى البلد الحرام وقد لا تصل، وبالتالي فإن من يعود إلى أهله من أداء نسكه يكون في حكم المولود من جديد، عرفنا ذلك من الكتب، وسمعناه من آبائنا يحكونها عن آبائهم وأجدادهم الذين عايشوا ذلك.
وبفضل من الله، ثم بإخلاص واحتساب وجهاد المؤسس لهذا الكيان العظيم الملك عبد العزيز صاحب الأيادي البيضاء، والمجد التليد، الذي بذل نفسه وولده وماله من أجل إعلاء كلمة التوحيد وترسيخ المعتقد الصحيح والمنهج السليم وتطبيق شريعة الله وتنفيذ حدوده وأحكامه، تبدَّل الخوف أمناً، والفقر غنى، والظلم عدلاً، وتبددت سحب الظلام، وانكشفت بإذن الله الغمة، وانفرجت الكربة واطمأن الحاج، وتوسعت الدنيا على المحتاج، وانحسر أهل الشر والفساد، وفر الأشرار وأرباب العناد، واندحر أصحاب الجور والهوى والشهوة والشبهة، وأنار التوحيد الخالص أرجاء الجزيرة، بل وتعداه إلى أنحاء المعمورة، وفاح عبق المعتقد الصحيح الممتزج بسلامة المنهج في كل شبر من بلادنا الحبيبة، حتى صار مسكاً فواحاً، وعنبراً صداحاً وروحاً وريحاناً.
ولما كانت المملكة العربية السعودية مهبط الوحي وقبلة المسلمين يتوجهون إليها في صلواتهم ونوافلهم ومتطلع أفئدتهم ومقصدهم لأداء مناسك الحج والعمرة أو الزيارة، فقد صرف جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - جُلّ عنايته وفائق اهتمامه وكبير جهده ومعظم وقته في خدمة الحرمين الشريفين من توسعة وتهيئة لكل ما هو ممكن في جميع المجالات من أجل أن يستطيع قاصدو البيتين الشريفين تأدية مناسكهم وشعائرهم وعباداتهم بيُسر وسهولة واطمئنان وأمن وأمان، واستمرت هذه الجهود المباركة والنظرة الخاصة والمتابعة الدقيقة الصادقة من قبل أبنائه البررة الميامين حتى تقلّد زمام الأمور وولاية الأمر وإدارة سدة البلاد من لقب نفسه بخادم الحرمين الشريفين حباً لهما وإخلاصاً لدينه ووفاء لعقيدته ورعاية لوطنه وأبنائه بصفة خاصة والمسلمين بصفة عامة، واستمراراً للعطاء، ومواصلة للجهود المباركة الخيّرة التي بدأها ووضع لبنتها الأولى مؤسس هذا الكيان العظيم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - حتى آتت ثمارها اليانعة ونتائجها السارة في هذا العهد الزاهر الميمون عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - الذي تلاقى فيه تراث الأجداد التليد العتيد بوفاء الأبناء والأحفاد المجيد فاتضح من خلاله قوة الأسس وسلامة البناء وصدق التوجه المفعم بصحة المعتقد والتوحيد الخالص، القائد إلى صدق الولاء وسلامة المنهج؛ ولذلك فإن كل من أدى مناسك الحج في الأعوام الماضية رأى ما يثلج الصدر، وترتاح له النفس، وتقر به العين، ويلهج بسببه اللسان بالدعاء لمن قاموا عليه، وتابعوه وعملوا على بذل جهودهم وإمكاناتهم المادية والمعنوية من أجل إنجاحه وإظهاره بالصورة المطلوبة والمرغوبة.
حيث يجيء دائماً، منظماً، مرتباً، متسلسلاً، ناجحاً باهراً، منضبطاً في حركة سياراته ومشاته، ومراقبته مراقبة دقيقة من حيث أماكن اختناقاته؛ ما يجعل الجميع يثنون ويشكرون ويدعون لولاة أمر هذه البلاد.
ولقد كان ذلك المشروع الإسلامي المتمثل في تطوير منطقة الجمرات وما حولها الذي يعد مبرة من مبرات ملك الإنسانية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ومفخرة من مفاخره، وهدية من هداياه المتتالية لأمة الإسلام، الذي شاهده الناس في أسقاع المعمورة عبر وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة واقعاً حياً ملموساً في مراحله المختلفة يستفيد من آثاره وثماره كل حاج ممن حج بيت الله الحرام لهذا العام 1429هـ، وليس هذا فقط، بل إن المراحل القادمة ستجعله أكثر إيجابية وأعمق نفعاً وأبلغ في تيسير أعمال الحج وأعظم قدرة وكفاءة من ذي قبل.
والأعظم من ذلك والأروع، الذي أصبح مضرب المثل ومحط الإعجاب والافتخار والاعتزاز، تلك التوسعة المنقطعة النظير للحرمين المكي والنبوي التي أولتهما دولتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين - حفظهما الله - جل الاهتمام والعناية من أجل إتمامها وتنفيذها بالمقدرات والإمكانات الهائلة. وإذا انضاف إلى ذلك تلك الخدمات المتميزة والظاهرة والملموسة التي تؤدَّى فيهما من سقاية ونظافة ورعاية ومتابعة واهتمام بالغ كانت النعمة أعظم وشكر الله أوجب والاعتراف لأهل الفضل بفضلهم يُطلب، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
والإنسان المنصف، الذي يتميز بالموضوعية والنزاهة، ويبحث عن الحق، وميزانه العدل، يدرك إدراكاً تاماً وقاطعاً، ويعتقد اعتقاداً جازماً، أنه لا يمكن أن يقوم بهذه الأعمال ويؤدي هذه الخدمات الهائلة للحجاج أمنية كانت أو صحية أو سكنية، أو غذائية أو إركابية أو غيرها سوى هذه البلاد، بل لا أكون مبالغاً إذا قلت إن ذلك لا تستطيعه ولا يمكن أن تقوم به جميع البلدان الإسلامية مجتمعة على ما هي عليه الآن.
إن المتأمل للمشاعر المقدسة يرى أموراً عجباً من حيث التضاريس والمناخ، جبال شاهقة، وشعاب ضيقة، وطرق وعرة، وحر شديد، وشمس محرقة، وإذا انضاف إلى ذلك العدد الهائل والجمع الغفير من الحجاج الذين يعدون بالملايين يزداد العجب والاستغراب كيف يكون هذا؟ وهل هو ممكن؟
وبفضل من الله العلي القدير ثم بتلك الجهود العظيمة التي تقوم بها المملكة والتي لا حدود لها، ذللت تلك الصعاب، وروضت تلك الأماكن، فأصبحت مكاناً آمناً مطمئناً سهلاً ميسراً، يجد فيه الحاج بغيته، ويصل إلى غرضه، ويحقق رغبته ويؤدي مناسكه براحة وتذلل وخشوع.
والذي يشد انتباه الإنسان ويدهشه مع اعتزازه وافتخاره ذلك الحضور الفاعل والوجود المكثف والمستمر والمتميز لرجال الأمن في كل وقت ومكان على اختلاف مراتبهم، وتنوع اختصاصاتهم؛ ليقوموا بخدمة ضيوف الرحمن، وإعانتهم، والحفاظ على أنفسهم، وممتلكاتهم ومساكنهم، ورغم ما يواجهونه من ضغط في العمل، وإحراجات لا تتصور، إلا أنهم يتميزون بأخلاق دمثة عالية، وآداب جمة راقية في التعامل مع الحجاج، رائدهم في ذلك تعاليم دينهم الحنيف، مع الإخلاص والاحتساب في خدمة دينهم وعقيدتهم، وبلادهم، وولاة أمرهم، ولا غرابة في ذلك ما دام أنه يقف وراءهم ويوجههم ويشرف عليهم، ويتابع أعمالهم بدقة وبصورة لا مثل لها ذلك الرجل المتميز والمدرك الواعي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية وفقه الله.
وإن كل ما تقوم به هذه الدولة المباركة مما يخدم ضيوف الرحمن تقدمه بنفس راضية مرتاحة، ولا تقصد منه رياء ولا سمعة، وإنما تقصد به وجه الله وخدمة الإسلام والمسلمين فوق كل أرض، وتحت كل سماء؛ ولذلك هي مستمرة في بذل كل ما يستطاع من أجل تسهيل وتيسير أمور الحج، وأكثر ما تقوم به في هذا المجال يتم بهدوء وصمت؛ ما يجعل الأعمال هي التي تتحدث، وليس هناك دليل على ذلك أكبر من ذلك المشروع الهائل والناجح الذي كلف الكثير والكثير من الوقت والجهد والمال، أعني به: مشروع الخيام المضادة للحريق، وما جهزت به من تجهيزات متطورة ومتقدمة تجعل الحجاج أكثر طمأنينة وارتياحاً؛ حيث إن كثيراً من الناس لم يعلموا عنه حتى أصبح واقعاً حياً يستفاد منه، وذلك وفقاً لنظرة ثاقبة وسياسة حكيمة وتوجيهات سديدة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين وبمتابعة صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبد العزيز وزير الشؤون البلدية والقروية.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الإخلاص والاحتساب في القول والعمل، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا. وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد.
مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية