Al Jazirah NewsPaper Wednesday  24/12/2008 G Issue 13236
الاربعاء 26 ذو الحجة 1429   العدد  13236
هل نخلق اقتصاداً (كنزياً) بفكر سعودي معاصر؟

في سبعينيات القرن الماضي جرى في الدول الصناعية الرأسمالية تطبيق واسع لما يُسمى بالفكر الليبرالي الجديد، وهو فكر اقتصادي من أهم معالمه: الدعوة لتحرير الأسواق وتقزيم حجم الحكومة والتخلي عن أهداف التوظيف الكامل، وخصخصة مشروعات القطاع العام، والانطلاق نحو العولمة (Globalization) من خلال توظيف المنظمات الاقتصادية الدولية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وأخيراً منظمة التجارة العالمية) في تكسير كل العوائق التي تحول دون اقتحام البضائع والخدمات ورؤوس الأموال للأسواق الخارجية.. وبالرغم من أن هذا الفكر الاقتصادي كان، في الحقيقة، شأناً خاصاً بالدول الصناعية الرأسمالية وانعكاسات لمشكلات هذه الدول وللمصالح المتصارعة للقوى الاجتماعية فيها، إلا أنه جرى تطبيقه بشكل كاسح في الدول النامية وكأننا إزاء حالة فريدة للصوت والصدى، والمتابع للمشهد الاقتصادي السعودي يلحظ وبشكل جلي في العقدين الماضيين معالم من الفكر الليبرالي الجديد بدءاً من الهرولة نحو خصخصة مشروعات القطاع العام والحصول على عضوية منظمة التجارة العالمية (WTO) وانتهاءً بالأصوات عالية النبرة التي أكدت ثم عادت ونفت تدخُّل الحكومة في الحد من الانخفاض المتواصل لسوق الأسهم وإنقاذ أعداد ضحايا الأسهم المتزايدة.

واليوم ومع دخول الدول الصناعية الرأسمالية في أزمة مالية طاحنة واقتصاد تسوده الفوضى وقوى الاضطراب، يدخل الفكر الليبرالي الجديد في محنة شديدة، ويتعرض، ولأول مره، لنقد لا هوادة فيه من جانب عدد بارز من الاقتصاديين وغيرهم.. فها هو على سبيل المثال السيد آلان جرينسبان، الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (1988-2006)، وفي استجوابه الأخير من قبل لجنة الإشراف والإصلاح الحكومي في مجلس النواب، يطالب بضرورة تدخل الحكومة في الأسواق، ويقول بأن الإيمان الأعمى باستقلالية الأسواق وقدرتها على تصحيح مسارها بنفسها هو ما أوصل الاقتصاد العالمي إلى هذه الأزمة.. وفي محاضرة عُقدت الشهر الماضي في مركز الدراسات الأمريكية في جامعة البحرين، قال عالم اللسانيات المشهور نعوم تشومسكي في جواب على أحد الأسئلة التي تتعلق بالأزمة المالية الحالية، إن جذور هذه الأزمة يعود بعضها إلى سيطرة الفكر الليبرالي الجديد في العقود الثلاثة الماضية ونجاحه في تحرير الأسواق من القوانين الحكومية.

إن الهدف من المقالة ليس التحدث عن الأزمة المالية العالمية فالجميع قد أصبحوا على علم تام بخفايا ومسببات هذه الأزمة، ولكن ما أردت طرحه هنا هو كيفية حماية اقتصادنا الوطني من هذا الإعصار المالي أو كما وصفه السيد آلان جرينسبان بالتسونامي المالي.. إن الخروج بسلام من هذه الكارثة المالية التي قد تضرب بقوة اقتصادنا الوطني يبدأ، في اعتقادنا، برفض التصور الفوضوي والعبثي الذي يصور التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية العدو رقم واحد للتقدم الاقتصادي والرفاء الاجتماعي. إننا بالرجوع إلى الاقتصاد الكنزي وإعادة تبني أخلاقياته وفق فكر الإنسان المعاصر وأدوات القرار المتاحة له قد نسهم ليس فقط في تجنب تداعيات الأزمة المالية، بل أيضاً نساعد على رفع المعاناة عن كاهل محدودي الدخل والفقراء وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية.. إن الاقتصاد الكنزي، نسبة إلى عالم الاقتصاد البريطاني الشهير جون كينز (John Keynes) بعد إصدار كتابه المعروف: (النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود) في عام 1936م، ينطوي على توجهات مغايرة تماماً للفكر الاقتصادي الليبرالي الجديد، فهو يعطي للحكومة دوراً مهماً بل ورائداً في خلق نوع من التوازن بين اعتبارات الكفاءة الاقتصادية من جهة واعتبارات الرفاء الاجتماعي من جهة أخرى.. لقد أثبت كينز بأدواته التحليلية أن سياسة تخفيض سعر الفائدة تزيد فعلاً من الطلب على الاستثمار ولكنها لا تكفي أبداً للخروج من مرحلة الكساد الاقتصادي، وهي المرحلة التي يجمع الاقتصاديون على أن الاقتصاد العالمي قد دخلها منذ شهر سبتمبر الماضي.. وكعلاج مكمل للخروج من مرحلة الكساد، أوصى كينز بزيادة الطلب على الاستهلاك أيضاً من خلال سياسة إعادة توزيع الدخل لصالح ذوي الدخل المحدود الذين يرتفع ميلهم للاستهلاك مقارنة بالأغنياء الذين إما تتراكم الأموال لديهم بحجة تفضيل السيولة (Liquidity Preference) أو يزداد استهلاكهم ولكن خارج الاقتصاد الوطني.. وبصفتي أحد أفراد المرحلة التي يتربع فيها خادم الحرمين الشريفين- أيده الله- على قمة صنع القرار في وطني فإنني آمل أن نواصل تفعيل بقية السياسات التي تدعم العدالة الاجتماعية في الفكر الاقتصادي الكنزي والتي -حفظه الله- قد بدأها عندما تبنى -أيده الله- القرارات السبعة عشر التي أدت بتوفيق من الله إلى تهدئة الارتفاعات الكبيرة في معدلات التضخم وتخفيف الآثار السلبية على الموطنين، وأخيراً وليس آخِراً، دعمه المادي الكبير والمتواصل لصناديق الإقراض الحكومية.

د. محمد بن حمد المغيولي
أستاذ المحاسبة المشارك في جامعة الملك سعود



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد