احتدم الجدل بين المدارس الفكرية الاقتصادية حول مسببات مشكلة البطالة، فالمدرسة الكلاسيكية الجديدة تدعي أن البطالة دائماً اختيارية في حين أن أقطاب التيار الكينزي يصرون على أن البقاء خارج قوى العمل ليس أمراً اختياريا على الإطلاق وإنما المستوى المتدني للأجور السائدة في سوق العمل قد تدفع بالعامل لأن يبقى عاطلاً.
ومن وجهة نظري المتواضعة فإن هذا الجدل البيزنطي لا قيمة له على الإطلاق لاسيما بأن النتيجة في نهاية المطاف واحدة حيث إن الباحث عن العمل لا يمكن أن يقبل بوظيفة تدر له أجرا متواضعا قد لا يعادل كلفة النقل من مقر سكنه إلى مكان عمله ولا يفي حتى بالحد الأدنى من متطلبات الحياة، وإن كان بعض كبار المسؤولين في وزارة العمل يعولون على كون البطالة قرار اختياري حتى يلقوا باللائمة على المواطنين العاطلين وبهذا يكونوا قد برروا الوضع المخجل لسوق العمل ونسب البطالة المرتفعة بين القوى العاملة الوطنية. على الرغم من اختلاف المنظرين حول مسببات البطالة إلا أنهم يتفقون حول وسائل العلاج المبنية على تحفيز الطلب الفعال وتقليص تكاليف الإنتاج حتى يتم تشغيل القوى العاطلة ومن ثم تحقيق شروط التوظف الكامل في الاقتصاد الوطني. لكن هذه السياسات المقترحة لا يمكن أن تقدم حلولا جذرية لمشكلة البطالة في الاقتصاد السعودي وذلك لوجود خلل وتشوهات هيكلية في بنية سوق العمل السعودي أدت إلى إقصاء طالبي العمل من المواطنين وفي نفس الوقت منحت فرص أوفر للأجانب، وبالتالي فإن الطلب الفعّال سوف يؤدي إلى المزيد من العمال الأجانب دون تقليص نسب المواطنين العاطلين عن العمل فالخطوة الأولى في حل مشكلة البطالة إذن تقتضي علاج تشوهات سوق العمل التي ستمنح المواطنين حضا أكبر في الحصول على وظائف.
إن السبب المباشر لتفاقم مشكلة البطالة في صفوف القوى العاملة الوطنية هي إخفاق السياسات الاقتصادية التي أدت إلى هذا الوضع المتناقض، ففي الوقت الذي يعاني المواطنون من البطالة يستضيف اقتصادنا عددا هائلا من العمال الأجانب ذوي التأهيل المهني المتواضع بل وحتى الأميين في لغاتهم الأم.
هذا الفشل في السياسات الاقتصادية المتعلقة بواقع سوق العمل يرتبط بجانبين، الجانب الأول: لقد أخفق نظامنا التعليمي في تأهيل كوادر وطنية قادرة على المنافسة في أسواق العمل المحلية والعالمية وهذا الإخفاق أعطى أشباه المؤهلين الأجانب ميزة في الحصول على الوظائف المهنية والتقنية على الرغم من تدني تأهيلهم بالمعايير الدولية وأسطع برهان على ذلك الكوادر الصحية العاملة في مستشفياتنا الحكومية والخاصة.
ثانياً: لقد أخفقت الأجهزة المعنية في حماية الوظائف غير المهنية والتي لا تحتاج أية تأهيل مثل العمل في مراكز البيع والتوزيع وسيارات الأجرة والتي أصبحت حقا حصرياً لجنسيات أجنبية معينة بسبب سطوة بعض المنفذين المستفيدين من هذا الوضع المخجل، وهذه الوظائف غير المهنية بإمكانها استيعاب عدد كبير من القوى العاملة الوطنية التي لم تحصل على فرص في التعليم العالي والمهني.
لكن التحدي الحقيقي والمأزق الفعلي الذي يواجه توظيف القوى العمالة الوطنية هو الحلقة المفرغة للبطالة، لقد عرف المختصون في حقل التنمية الاقتصادية الحلقة المفرغة للفقر والتي توضح أن مشكلة الفقر تعود إلى النقص الشديد في رأس المال الذي يعد نتيجة طبيعية لتواضع الدخل القومي. فما هي يا ترى الحلقة المفرغة للبطالة؟ وهل حقاً لها دور في البقاء على النسب المرتفعة للبطالة بين صفوف المواطنين السعوديين؟
لعله من نافلة القول أن نذكر بأن هناك على الأقل حلقتين مفرغتين تواجه العامل السعودي في القطاع الخاص. الحلقة الأولى، تنص على أن تدني الأجور المقدمة للمواطنين السعوديين في ظل غياب حماية الأجهزة الحكومية للوظائف وقصرها على المواطنين واستمرار تدفقات الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة قد أدت إلى إقصاء المواطنين من سوق العمل، وبالتالي لا يمكن حل هذه الإشكالية إلا من خلال تبني سياسات فعالة تهدف إلى إزالة التشوهات في سوق العمل وتمنح الأيدي العاملة الوطنية ميزة تنافسية في مواجهة القوى الأجنبية.
أما الحلقة المفرغة الأخرى للبطالة والأكثر أهمية، فهي تتعلق بالتمييز ضد القوى العاملة الوطنية في التوظيف من خلال استحواذ جنسيات معينة على نشاطات محددة، لذا تجد بأن بعض شركات القطاع الخاص السعودية في العديد من النشاطات توظف فقط جنسيات معينة ويقتصر دور السعوديين فيها فقط على مراجعة الدوائر الحكومية والتعقيب والأمن وإعداد القهوة للموظفين الأجانب.
لكن ما هي الحلقة المفرغة للبطالة؟ هي أن تلك الوظائف أصبحت حقا حصرياً على الجيل الثاني والجيل الثالث من أبناء وأحفاد الجيل الأول من الجنسيات الأجنبية الذين تعلموا في مدارس خاصة داخل المملكة العربية السعودية ثم واصلوا تعليمهم العالي والتقني في أرقى الجامعات الغربية أو في مؤسسات التعليم العالي في بلدانهم الأم ليعودوا ثم يحتلوا الوظائف ذات الدخول العالية التي احتجزها آبائهم لهم وقاموا بإقصاء أبنائنا المواطنين منها. أما دور وزارة العمل ومشروع السعودة فيقتصر على دعم توظيف المواطنين في المهن المنحطة التي يترفع عن شغلها الأجانب بسبب تدني دخولها وتواضع مستوياتها الاجتماعية، وتتبع وزارة العمل في فرض السعودة أسلوب الإقناع الأدبي والتعويل على الحس الوطني المفقود أصلاً لدى الملاك الفعليين لتلك الشركات من الأجانب وأشباه الأجانب.
إن توفير الفرص الوظيفية للمواطنين لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تم كسر تلك الحلقة المفرغة للبطالة بإعطاء المواطنين الباحثين عن العمل فرصة مساوية على الأقل مع نظرائهم الأجانب ومنع احتكار وظائف القطاع الخاص على جنسيات معينة ولا سيما بأن المحرك والممول الأساسي لنشاطات تلك الشركات هي العقود الحكومية، وبالتالي إذا كان توظيف المواطنين خيارا استراتيجيا فإن من حق الأجهزة الحكومية أن تفرض الشروط التي تحقق تلك الأهداف ويتزامن مع ذلك رغبة حقيقية وصادقة وجادة للرقي بمؤسسات التعليم العام والجامعي الوطنية.
أستاذ الاقتصاد المساعد بمعهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa