Al Jazirah NewsPaper Monday  22/12/2008 G Issue 13234
الأثنين 24 ذو الحجة 1429   العدد  13234
من أجل نظرة ثاقبة
بان كي مون

إن العام المقبل سوف يكون عاماً مشحوناً بالتوتر - سلسلة من الاختيارات العصيبة بين حتميات الحاضر وضرورات المستقبل. والكيفية التي سنحل بها هذا التوتر سوف تكون بمثابة المقياس لبصيرتنا وقدرتنا على الزعامة.

وبوصفنا مجتمع من الأمم فإننا نواجه ثلاثة اختبارات مباشرة في العام المقبل. الاختبار الأول بدأ بالفعل، وهو لا يتمثل في الأزمة العالمية على الرغم من أهميتها، بل إنني أتحدث هنا عن مسألة تغير المناخ التي تشكل تهديداً حقيقياً لوجودنا.

لم يعد أمامنا من الوقت سوى 12 شهراً قبل أن تنعقد قمة كبرى في كوبنهاغن، حيث سنجتمع نحن زعماء العالم في شهر ديسمبر-كانون الأول المقبل من أجل التوصل إلى اتفاق حول الحد من ظاهرة الانحباس الحراري العالمي. وسوف نحتاج إلى اتفاق ينجح في تمديد وتعميق وتعزيز قوة بروتوكول كيوتو. كما سنحتاج إلى معاهدة جديدة للقرن الحادي والعشرين تتسم بالتوازن والشمول - معاهدة تستطيع دول العالم كافة أن تتبناها.

لقد قطعنا خطوة مهمة على هذا الاتجاه في أوائل شهر ديسمبر-كانون الأول في مدينة بوزنان ببولندا، حيث اجتمع وزراء وخبراء المناخ من أجل التوصل إلى خطة عمل نحو المستقبل. كانت المفاوضات صعبة، ومن المتوقع أن تزداد صعوبة. فقد زعم البعض أننا لا نستطيع أن نتحمل تكاليف التعامل مع قضية تغير المناخ. وأنا أقول إننا لا نستطيع أن نتحمل تكاليف التقاعس عن التعامل مع هذه القضية. فقد بات مستقبل كوكب الأرض على المحك.

والاختبار الثاني يتسم بطبيعة اقتصادية. إذ أننا في حاجة واضحة إلى حافز عالمي. لقد استجابت القوى الاقتصادية الكبرى للأزمة الحالية بخطط إنقاذ مالية ونقدية طموحة. ولقد أظهر اجتماع زعماء مجموعة الدول العشرين في واشنطن في شهر نوفمبر-تشرين الثاني أن الحكومات تعمل على نحو متآزر من أجل تنسيق السياسات والخطط. ولقد توسعت هذه الجهود بموجب اجتماع لاحق استضافته مدينة الدوحة.

كل هذا موضع ترحيب، ولكن يتعين علينا أن نبذل المزيد من الجهد. فنحن في المقام الأول نحتاج إلى قدر من التفكير الجريء الجديد. وإذا كان لنا أن نستغل مواردنا في الخروج من الأزمة المالية، فيتعين علينا أن نتعامل معها بذكاء. وهذا يعني أن انفاقنا في هذا السياق لابد وأن يكون في هيئة استثمارات. ولابد وأن يكون أيضاً قادراً على الاستمرار، حتى لا يكون الأمر وكأننا نلقي بأموالنا على المشكلات، بل نستخدم هذه الأموال بدلاً من ذلك في إرساء الأسس اللازمة لبناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.

الحقيقة أن الصين أظهرت قدراً عظيماً من الزعامة في هذا السياق. إذ إن ثلثاً كاملاً من برنامج التحفيز الاقتصادي الذي أعلنت عنه الصين بقيمة 586 مليار دولار أميركي سوف تصب في النمو الأخضر والبنية الأساسية الخضراء. لقد اغتنمت الصين الفرصة لمعالجة العديد من التحديات في آن واحد - خلق فرص العمل، والحفاظ على الطاقة، ومكافحة تغير المناخ. وتخطط الولايات المتحدة تحت زعامة الرئيس باراك أوباما للقيام بنفس الشيء.

إن صناع القرار هؤلاء يدركون أن الاستثمار في أنواع الوقود البديلة والتكنولوجيات الرحيمة بالبيئة سوف تعود علينا في المستقبل بفوائد عظيمة من حيث البيئة الأكثر أماناً، والاستقلال في مجال الطاقة، والنمو المستدام. بيد أنهم يدركون أيضاً أن الاستثمار الأخضر قادر على خلق فرص العمل وتحفيز النمو في وقتنا الحاضر. ويتعين على بلدان العالم الأخرى أن تسير على نفس الخُطى. فلن يتسنى لنا أن نؤذن ببداية عصر جديد من الرخاء المستدام في غياب دفعة عالمية ضخمة، حيث تتحرك كافة دول العالم في نفس الاتجاه. وإن كان لدينا أي وقت للرؤى الجريئة الطموحة - الفرصة لرسم مسار جديد وأفضل - فهو الآن وليس غداً.

أما الاختبار الثالث فينبع من مبدأ عملي. إن الأزمات التي نواجهها لا تقتصر على تغير المناخ وتأزم التمويل العالمي. ولكن الواقع أن هاتين الأزمتين من الأسباب التي أدت إلى تفاقم تهديدات أخرى: انعدام الأمن الغذائي، وتقلب أسعار الطاقة والسلع الأساسية، واستمرار الفقر على هذا النحو الرهيب. ولم تفلت أي أمة من هذه التهديدات، بيد أن البلدان الأشد فقراً هي الأكثر تعرضاً للضربات.

إن أزمة اليوم المالية قد تتحول إلى أزمة إنسانية في الغد إن لم نتعامل معها على الوجه السليم. فقد تنمو القلاقل الاجتماعية ويتعاظم عدم الاستقرار السياسي، الأمر الذي لابد وأن يؤدي إلى تفاقم كافة المشكلات الأخرى. ومكمن الخطر هنا أن يتحول كل ذلك إلى سلسلة متعاقبة من الأزمات العالمية التي سوف تنبني كل منها على الأخرى، ولسوف تكون العواقب المحتملة مدمرة للجميع.لذا، يتعين علينا أثناء العام المقبل أن نعمل بروح من التضامن العالمي. والتدابير التي سوف نتخذها لمعالجة الأزمة المالية لابد وأن تصب في مصلحة كافة بلدان العالم - الأشد فقراً والأكثر ثراءً وقوة على السواء. ومن الأهمية بمكان أن تشكل برامج المساعدات الموجهة إلى البلدان النامية جزءاً من أي حافز عالمي أو خطة بعيدة المدى لإنعاش الاقتصاد العالمي. وهذا يعني على أقل تقدير عدم استغلال الأزمة المالية كذريعة لتقليص المساعدات الدولية ومعونات التنمية. بل يتعين علينا أن نحترم التزاماتنا في إطار الأهداف الإنمائية للألفية باعتبارها تدبيراً عملياً ومسؤولية أخلاقية.إننا نقف الآن على أعتاب نوع جديد من التعددية. وبات بندول التاريخ يتأرجح نحو الأمم المتحدة والعمل الجماعي. والتحديات التي نواجهها اليوم كمجتمع دولي أصبحت بصورة متزايدة تقوم على المشاركة والتعاون: مكافحة تغير المناخ، وإعادة بناء النظام المالي العالمي، وتعزيز التنمية المستدامة.

في هذا العالم المترابط المتشابك يكمن التحدي في إدراك العلاقة بين ثلاث مجموعات من المشكلات. ومن خلال البصيرة الثاقبة فإننا قادرون على إيجاد الحلول لكل مشكلة على النحو الذي يصلح لحل المشكلات الأخرى أيضاً. ولكن الأمر سوف يتطلب قدراً عظيماً من الزعامة الصالحة لترجمة هذه الرؤية الشاملة إلى عملٍ، تماماً كما سوف يتطلب الأمر الزعامة من أجل موازنة مصالحنا الأطول أمداً في مقابل قضايا اليوم الملحة الشرسة.

الأمين العام للأمم المتحدة
خاص بالجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد