Al Jazirah NewsPaper Monday  22/12/2008 G Issue 13234
الأثنين 24 ذو الحجة 1429   العدد  13234

واستمرأنا إدمان الذل 1-2
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

كان من مكارم العرب قبل ظهور الإسلام إباء الضيم، وأتى الإسلام بكل ما فيه من قيم عظيمة ليتمم تلك المكارم ويرسخها. وما النخوة التي اتصف بها المعتصم، فأنجد من استنجدت به عن بُعد، إلا مَثَل رائع لمن رسخت في نفسه المكارم الأصيلة. كان ذلك

الزعيم العباسي قائداً عربياً مسلماً لأمتنا. وفي عصر هذه الأمة الحاضر، الذي سماه من سماه عصر التنوير، وسماه من سماه عصر التغريب أو الاستغراب، وسماه المعاصرون جداً عصر العولمة، ولم ير كاتب هذه السطور الفقير إلى ربه الغفور، أنسب من تسميته - وفق ما هو مشاهد بيّن - عصر الأمركة..

في هذا العصر كثر القادة، وتعددت وجوه القيادة، لكني أكاد أصدِّق ذلك الشاعر العربي، الذي قال قبل ألف عام:

إني لأفتح عيني حين أفتحها

على كثيرين لكن لا أرى أحدا

كان الشاعر العملاق عمر أبوريشة، رحمه الله، قد سبق إلى المقارنة بين القائد المعتصم، الذي فعل فعلته قبل ألف ومئتي عام وكان من الأباة، وقادة القرن الماضي، فقال فيما قال مخاطباً أمته:

ألإسرائيل تعلو راية

في حمى المهد وظل الحرم؟

كيف أغفيت على الذل ولم

تنفضي عنك غبار التُّهم؟

إلى أن قال:

رب (وامعتصماه) انطلقت

ملء أفواه البنات اليُتَّم

لامست أسماعهم لكنها

لم تلامس نخوة المعتصم

وكان كاتب هذه السطور قد عبَّر عن شعور مشابه لما كان يشعر به أبو ريشة؛ وذلك على لسان مقاتل بعث برسائل إلى أمه من الجبهة في حرب رمضان سنة 1393هـ؛ قائلاً في آخر رسالة له:

أماه إن كنت لم أكتب فمعذرة

يد الأسى حطمت في كفي القلما

ماذا أقول؟ دخان الصمت يخنقني

يغتال في شفتي النطق والكلما

بالأمس حدثت عن نصر أحقِّقه

وعن سنا أمل من حولي ارتسما

عن جحفل سوف يمضي في تقدمه

مهما تكبَّد من هول وبذل دما

حتى يعيد إلى الأقصى هويَّته

ويسقي الذل نذلاً دنَّس الحرما

والآن ماذا أرى؟ وضع يمزِّقني

يبث في مهجتي الأحزان والألما

توقفت طلقات النار.. عاد إلى

مجاهل الصمت صوت ضج واحتدما

والقدس ما زال محتل يدنِّسها

وغاصب في حماها يرفع العلما

وعدت أبحث عن حل يقدمه

من صبَّ فوقي من ويلاته ضرما

وعن وثيقة تخليص أوقِّعها

في خيمة جرحت من أمتي الشمما

أجل.. كان ذلك المقاتل البطل قد أدرك ما آلت إليه الأمور، وأنه قد بات يتطلع إلى حل يقدمه أعداء الأمة. وهل على رأس هؤلاء الأعداء منذ انتهاء الاستعمار القديم رسمياً إلا قادة المتصهينين في أمريكا؟ كان أحد دهاقنة الإدارة الأمريكية حينذاك الصهيوني كيسنجر، الذي كان من خططه الشريرة الماكرة تقسيم منطقتنا إلى دويلات طائفية وعرقية، وإنهاء قضية فلسطين بما سماه سياسة الخطوة خطوة، التي كان من أهم أهدافها الواضحة إتاحة الفرصة للصهاينة كي يهودوا ما احتلوه، عام 1967م، من أراض فلسطينية وعربية حتى يصبح التهويد أمراً واقعاً ليس من السهل تغييره.

وكان من أكبر نجاحات الصهاينة - إن لم يكن أكبرها - بعد إقامتهم كيانهم على أرض فلسطين ما حدث نتيجة تلك السياسة المخططة كيسنجرياً اختفاء مصر بكل ما لها من ثقل ومكانة سابقتين عن مسرح المواجهة مع ذلك الكيان باتفاقية كامب ديفيد. ومن يقرأ تفصيلات ما أعلن من بنود تلك الاتفاقية، ويتأمل مجريات الحوادث التي قُبل فيها من الإذلال ما قُبل، يدرك مدى ذلك النجاح الصهيوني المدعوم دعماً غير محدود من قِبل متصهيني الإدارات الأمريكية.

ومضت سياسة الخطوة خطوة الكيسنجرية أساساً تؤتي ثمارها المتوقعة لصالح الصهاينة وأشياعهم من المتصهينين. كان العرب عندما كان لديهم بقية من إباء الضيم يرفضون الاعتراف بشرعية الوجود الصهيوني على أرض فلسطين.

وكان آخر تعبير لهم عن ذلك ما اتخذوه من موقف في مؤتمر الخرطوم المشهور.

حدثت اتفاقية كامب ديفيد فانهد المسباح كما يقول المثل الشعبي، وأصبحت سياسة الأمر الواقع هي السياسة العاقلة بدلاً من سياسة الملك فيصل التي أوضحها للرئيس الفرنسي، ديجول، عندما قال له ذلك الرئيس: إن إسرائيل أمر واقع، فأجابه الفيصل: (لو كنت سلمت بالأمر الواقع - يا فخامة الرئيس - لبقيت فرنسا نازية).

وما كان للسياسة التي وضع أساسها الداهية الصهيوني، كيسنجر، وهي سياسة الخطوة خطوة، أن تقف عن المسير، وكان من أهم الخطوات التي تمت مؤتمر مدريد، الذي وصفه وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، جيمس بيكر، بأنه من أكبر الخدمات التي قدمتها إدارة دولته للصهاينة، إن لم يكن أكبرها.

وظلت الخطوات تتوالى، لكن وتيرة السير تزداد سرعة، كما تزداد بُعداً عن التمسك بالمواقف المشرفة التي كان يقفها أباة ضيم من زعماء أمتنا.

والحديث عن تلك الوتيرة وهذا البُعد سيأتي - إن شاء الله - في الحلقة القادمة.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد